يستحضر الجالس اليوم بين الجيل الجديد لـ»القوميين» التاريخ الطويل للحزب، البعيد منه والقريب، بنجاحاته وبإخفاقاته، ويعود الحديث معه الى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي حين عاش الحزب عصره الذهبي، البعيد عن واقع حال اليوم.لكن هذا الجيل المُخضرم يعيش توق التغيير مستوحيا بالتحديد من ذلك الماضي البعيد ليحاول إسقاطه على الحاضر، رافضا اعتبار نفسه حالماً، ويخوض معركته الاولى في لبنان ضد القوى نفسها كما في المراحل الماضية، مثلما يخوضها ضد النظام السياسي الذي يعتبره أساس البلاء ومولّد الحروب.
يعلم «القوميون» مدى صعوبة المعركة وسط غابة من الاحزاب والتيارات الطائفية والمذهبية ليصبح «الحزب السوري القومي الإجتماعي» و»الحزب الشيوعي اللبناني» على سبيل المثال لا الحصر إستثنائيي الحضور والدور، بينما يتفاءل كثيرون بمجموعات حراكية ولدت من رحم الاحتجاجات الشعبية على النظام منذ العام 2015 وتبلورت بعد تاريخ 17 تشرين 2019 ما زال الطريق طويلا امامها لترسيخ الحضور.
23 أيار: الإنطلاقة.. و«القوات»
من هنا تبدو مهمة «القوميين» اليوم مبدئية أكثر من كونها واقعية، لكن هؤلاء يخوضونها بتصميم ويدخلون «معركة وجود» عبر أداء متجدد في وجه قوى تفوقهم عتيداً على الأرض كما في معركتهم اليوم مع «القوات اللبنانية» التي توجه الدعوى تلو الأخرى ضدهم. ويحلو لـ»القوميين» اعتبار تاريخ 23 أيار الماضي يوم ولادة جديدة في ما يؤكدون انه استفتاء على حضور صامد للحزب، لا بل حتى انطلاقة جديدة له.
واليوم يتمثل القرار من القيادة الشابة بتدشين كل ذلك بقرار النزول الى الشارع. لكن الأمر لا يعني مجرد اعتراض شعبي، كان الافتتاح بعرض شعبي كبير لمناسبة «عيد المقاومة والتحرير» موجهين الرسالة الى مناوئي الداخل في الحزب ولشد العصب، تحت عنوان إعلان موقف ضروري بعد العدوان على غزة جاء على لسان رئيس الحزب ربيع بنات.
هنا لا تهم التقديرات، وإذا كانت الاجهزة الامنية قد قدرت المشاركين بنحو 15 ألفاً أغلقوا شارع الحمراء، المنطقة المتنوعة مشارب وطوائف، فإن القوميين استعانوا بعرض شبه عسكري حيث كان ظهور ملحوظ من «نسور الزوبعة»، لتوجيه البوصلة نحو مخاصمي الحزب في السياسة في حضور رسمي كانت لافتة للنظر فيه المشاركة الروسية.
وبالتأكيد انها رسائل موجهة الى الاخصام في ما عرف يوماً بقوى «14 آذار» وعلى رأسهم رئيس «القوات» سمير جعجع الذي يخوض حربا قضائية في وجههم، في ما يعتبرون أنه يشكل اعترافا بكونهم الخصم الاول لـ»القوات» في البلاد، ولذا فهم سيخوضون معركتهم تلك حتى النهاية. على ان قضية الحزب تتخذ روافدها من مبادىء المؤسس أنطون سعادة، عبر تأكيد على هوية العدو في الخارج ومصيرية المعركة ضده وهي لن تكون معركة طائفية يقودها الشيعة ضده عبر «حزب الله»، بل مقارعة لا تعرف طائفة او هوية بعينها، وكذلك الامر مع «أدوات الداخل» التي يزايدون فيها أيضا على الحلفاء. ولسان حال «القوميين» أن الاحزاب العقائدية لم تنته، والمدنية والعلمانية ليست مقتصرة على «منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالغرب»، بل ان قوة تخرج من القمقم عابرة ستواجه «الأعداء» في معقل الساحات التي يريد هؤلاء سلخها عن الكيان الذي يُراد تقسيمه لوليد حروب جديدة. وبذلك تتفوق هذه الحركة كما يرى من في بيئتها، بجرأتها وبخطابها السياسي الجذري في لبنان والمنطقة الذي لم يذهب إليه «حزب الله» نفسه. في مواءمة بين الخطاب الموجه الى الخارج والآخر الداخلي الرافض للنظام السياسي اللبناني برمته. فلا أمل بالطائف أو بالدوحة، هذه حلول مؤقتة بينما يتمثل الحل الدائم في انتاج دولة وطنية مدنية على اسس غير طائفية، اهم مداميكها قانونا للانتخابات يجمع كل لبنان بدائرة واحدة على اساس النسبية. لكن الاهم، وهذا ما يتفوق فيه الحزب أيضا، فهو القانون الموحد للأحوال الشخصية.
يبدو الحزب وكأنه يزايد على الآخرين في ما لا يجرؤ هؤلاء على قوله. والمسار اليوم يتخذ جانبيّ الخروج بمواقف غير مسبوقة، والشروع في ورشة داخلية واحياء شرائح المناطق وتوسيع دائرة العائدين. هنا لا يود «القوميون» إشعال الأزمات مع الآخرين في الحزب ممن ينازعونهم الشرعية وهو ما لا يُفيد في هذا الظرف، بل يلتفتون الى تعزيز الموقف في مرحلة بالغة الخطورة.
خطر التقسيم على لبنان
يستفيض الحزبيون في شرح القلق الذي يعتريهم مما تحمله هذه الايام التي قد تكون حبلى بالكثير. ذلك ان المرحلة اليوم باتت «ناضجة» مسار ما تم تدشينه في العام 2003 مع احتلال العراق. ورؤيتهم تقوم على المطلوب كان حينها اسقاط الدولة العراقية وتقسيم المنطقة الى دويلات طائفية وإثنية بعد تدمير الجيش العراقي والدولة المركزية.
ومع تغذية العصبيات وإطلاق الصراع السني – الشيعي، أنجز التحضير لمشهد سوري مماثل «لإخضاع الشام وفرض تسوية مع العدو»، وان كانت الحرب عليها اتخذت ادوات مختلفة، في موازاة اعلان يهودية الدولة الاسرائيلية لتكون نموذجا لمستقبل المنطقة المليئة بالثروات بعد تدمير الدول المركزية. ولبنان ليس الإستثناء هنا. «يريدون التقسيم وها هي دعوات اسقاط الدولة ذات النظام الهش والضعيف والطائفي، وها هي تسوية الطائف قد سقطت بالتجربة، وثمة دور لقوى طائفية ومرتبطة تعمل لهذا التقسيم ولو عبر عناوين متعددة كالفيدرالية أو توسيع اللامركزية الادارية أو تعزيز الادارات المحلية، وكل ذلك على اساس طائفي».في أوساط «القوميين» تحذيرات مما يحضر للبنان في هذه الكارثة الاجتماعية، والمتهم هو «أميركا وحلفاؤها الذين يريدون هزّ النظام المالي اللبناني لإخضاعه لـ»صندوق النقد الدولي». وسط ذلك تبدو القوى السياسية «إما مرتبطة أو عاجزة أو خائفة وهي فاسدة قبل كل ذلك تنفذ تلك الرغبة بشيطنة المقاومة وتحميلها وزر كل ما حصل في البلاد لحرف موقع لبنان من الصراع مع العدو».
في حديثهم هذا، قد يحلو لأخصام «القومي» وصفه بالمنفصل عن الواقع، بينما يفخر القوميون بتمسكهم بمبادىء سعادة بعد أكثر من 10 عاما على غيابه، لكن مبادىء الرجل تحضر وتثبت صحتها، وبذلك فإن اسباب ثورته ما زالت قائمة.
فمواجهة النظام اللبناني، أصل العلّة، تستلزم دور الحزب كقوة مدنية عابرة للطوائف، ستزيد الزخم في المرحلة المقبلة لإثبات ان الثورة ممكنة مع حزب قائم لم يولد حديثا مع 17 تشرين، واللائحة تطول في تحركات ستكون مدروسة وموجَّهة لناحية البعيد.. والقريب.