بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 شباط 2022 12:01ص اللوياجيرغا السُّنية وكفن الحريري

حجم الخط
  لم يكن نادي رؤساء الحكومة السابقين الذي حفر فؤاد السنيورة بإبرته عميقاً لتليين زواياه الحادة وبناء أضلاعه غير المتوازية الحيثيات، لم يكن تعبيراً عن ترف فكري وتنظيري يميّزا السنيورة عن أقرانه، بقدر ما كان يستبطن حاجة ملحة تهدف الى تحصين موقع رئاسة الحكومة من حيف واستضعاف أصابه أولاً، والى تخفيف الآم الانهيار والارتطام الكبير عن اللبنانيين عامة والسُنّة خاصة ثانياً.

ويرجّح أنّ السنيورة يدرك، أن محاولته تحصين الساحة السنية عبر النادي مظلّلاً بدار الفتوى، انتهت الى ما يشبه «اللوياجيرغا السنية» التي حاولت أن تتصدى للشأن العام الوطني من زاوية حماية موقع رئاسة الحكومة والمعادلات الوطنية الكبرى، لكن هذه اللوياجيرغا تعرّضت ومن الركن الأبرز فيها سعد الحريري لانتكاستين.

الأولى، تمثّلت في ارتجال الحريري تقديم نفسه مرشحاً طبيعيا لتشكيل الحكومة وفق المواصفات الماكرونية بطريقة استعلائية على أعضاء النادي أولاً، وإقصائية على جبران باسيل ثانياً، وما تبعهما من اعتذار دراماتيكي للحريري، وصعود اوتوماتيكي لنجيب ميقاتي لكن من تحت «ثلث» باسيل.

الثانية، اعتزال الحريري التراجيدي وخروجه وتيار المستقبل من المشهد السياسي، ما أوقع الحلفاء قبل الخصوم في ارتباك لم تتظهّر بعد كامل تداعياته، ويرجّح أن تظهيرها النهائي مرتبط بنتائج الانتخابات النيابية اذا حصلت!

لا داعي لتقديم سردية كشف حساب في إخفاقات وأخطاء سعد الحريري، وتنازلاته وتسوياته التي عزّزت الإحباط بين جموع واسعة من المستقبليين أولاً، وشرائح شعبية وازنة من الطائفة السنية التي كان يتزعمها سعد الحريري على نحو غير مسبوق في تاريخ لبنان ثانياً.

فالحريري أخفق في الإيفاء بمطلق وعد تنموي أو سياسي مثل قضية «الموقوفين الاسلاميين»، فضلاً عن كونه سبباً في تهميش الطائفة وكسر شكيمتها. رغم ذلك لم تخلعه الطائفة المهيضة الجناح ولم تتخلّ عنه، لكنها عندما قرّر تركها على مفترقات الاعتزال، لم تتمسّك به وتطالبه بالبقاء. لم تتمسّك به، لأنه فُرض عليها مخضباً بدماء أبيه، فاحتضنته كأمل يرتجى، لكنّ زرع الحريري اليباب، حصدته الطائفة المقهورة خيبات وانكسارات.

عندما بزغت ثورة 17 تشرين، كان لافتاً أن طرابلس التي تلألأت عروساً للثورة، قد استهلّت عرسها الكبير بتمزيق وتكسير وإحراق صور سعد الحريري ووالده الشهيد رفيق الحريري. يومها كان غضب عروس الثورة من الحريري الأب والابن، ليس كرهاً بهما، بل حنقاً عليهما بسبب السياسات التنازلاية والتسويات المشؤومة التي كانت طرابلس وغالبية شباب أهل السنّة أول وأكثر من دفعوا أثمانها فقراً وقهراً وجوعاً وتهميشاً وتهشيماً وتشريداً وهجرة ودعشنة واستضعافاً، وهي عوامل فعلت فعلها في نفوس الكثيرين الذين لم يفكر أحد منهم في قطع طريق المطار بأجسادهم لمنعه من مغادرة لبنان.

وعندما بزغ فجر 17 تشرين ميّز بهاء الحريري الابن البيولوجي البكر لرفيق الحريري نفسه، وأعلن انحيازه لمطالب الحراك الشعبي في كنس منظومة الفساد بأكملها وعلى رأسها شقيقه سعد دون أن يلفظ اسمه. لقد ركب بهاء الحريري أجنحة الثورة وأعلن عبر مؤسّساته الاجتماعية ومنابره الاعلامية عن دعمه لها واندماجه فيها. ومن زاوية الحراك الشعبي والثوروي أخذ يعدّ العدّة لدخوله الحلبة السياسية. وما إن خرج شقيقه الأصغر من الحلبة، حتى أعلن عبر شريط فيديو دخوله معترك الحيتان السياسية بهدف استكمال مشروع رفيق الحريري غير آبه بالرصاص السياسي الذي يستهدفه تارة عبر محاولات إلصاقه بتركيا بهدف تحريض دول الخليج عليه، وطوراً بإشاعة مناخ عدم وجود مطلق تغطية عربية او دولية له، فضلاً عن غيابه عن لبنان ومنذ اغتيال والده، دون أن يتحدث أحد عن إقصائه وتغييبه ومن قبل انطلاق مراسم دفن والده. لكن رصاص الحقد الاكثر فتكاً كان ذلك الذي أطلقه ومن منصة دار الفتوى النائب نهاد المشنوق الساعي أكثر من غيره للجلوس ليس على كرسي سعد الحريري، وإنما على كرسي رفيق الحريري.

كثُرٌ يتحدثون عن افتقاد بهاء الحريري للخبرة السياسية، لكن غالبية هؤلاء الكثر يتناسون عمداً حجم لا خبرة سعد الحريري الذي لم تصرعه قلة الخبرة، بل كثرة التنازلات والتسويات التي أبرمها ليبقى على كرسي السراي، حتى لو كان الثمن جلوس طائفته على خوازيق القهر والإفقار والتهميش.

الحريرية السياسية أو الوطنية أو البيولوجية لا فرق، ليست إيديولوجيا سياسية أو عقيدة دينية تؤمن الناس بها أو تكفر. بل منظومة علاقات عامة تقاطعت فيها واستثمرت جملة من المصالح اللبنانية والعربية والاقليمية والدولية. منظومة قامت على الخدمات والمصالح والتوظيفات والتنفيعات فقط لا غير. فما حاجة الناس للحريرية عندما تفقد وظيفتها وغاية نشأتها وسبب تسنّمها مقاليد الحكم والسلطة لعقود من الزمن؟ وما حاجة الناس لسعد الحريري المفلس مالياً والذي خرج في خطابه الأخير يمنّن الناس بخسارته ثروته، وكأنه خسرها في مشروعات تنموية تحتاجها القرى والأرياف المهملة. حتى مؤسّسات المستقبل التربوية والصحية والإعلامية أقفلت ولم تحظَ بالديمومة والاستمرار، في وقت تستمر فيه مؤسّسات وفضائيات رجال أعمال لم تصل ثرواتهم لأعشار ثروة الحريري الضائعة.

رغم هذا، لم يزل سعد الحريري يحظى بتعاطف حتى من أولئك الجوعى حتى لصورة سلفي معه. ورغم هذا بقيت عباءة الحريري تغطي الكثير من الاعتوارات التي تعرّت بسقوطه التراجيدي في وسط بيروت وليس في أية عاصمة أخرى!

تدرّج بهاء الحريري في ولوجه الى الداخل اللبناني، فبعد اعلانه عن قراره استكمال مشروع رفيق الحريري، سارع الى تعيين ممثل سياسي له استهل نشاطه بلقاء البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي عبّر عن مفاجأته لانكفاء سعد الحريري، وفيما نشر إعلام بكركي تقريراً مفصلاً ومطولاً عن لقائه بممثل الحريري صافي كالو، نُشر خبر مقتضب عن لقاء متأخر لكالو مع مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان الذي يبدو أنه التقط شيفرة موقف المملكة من المقابلة التي أجرتها صحيفة اليوم السعودية مع «رجل الاعمال والسياسي بهاء رفيق الحريري» الذي أعلن «عزمه على المشاركة في الانتخابات المقبلة، كونها نقطة محورية في تاريخ لبنان، وإن الشعب اللبناني لا يريد فقط قيادة جديدة غير ملوثة بالفساد المستشري، بل يطالب بذلك».

كما بات خروج سعد الحريري من المسلّمات الواقعية، فإن ولوج بهاء الحريري بات من المسلّمات الواقعية إياها. وبين تناقض المسلمّتين تجد اللوياجيرغا السنية نفسها وكأنها بين حجري رحى يضاعف دورانها من غموض المشهد قبل أن تتضح التحوّلات والاستدارات المطلوبة بدءا من دار الفتوى وبرعايتها.

تحوّلات تجري في لحظة يتضاعف فيها الضغط الخليجي على لبنان، إنطلاقاً من بنود المبادرة الخليجية المنتصبة على البيان السعودي الفرنسي المشترك والمعزّزة ببيان لمجلس الأمن حول لبنان لجهة اجراء الانتخابات في مواعيدها الدستورية توازياً مع اجراء الاصلاحات وضبط الحدود والتذكير بالقرارات الدولية الواجبة التنفيذ وخصوصاً القرار 1559 الخاص بنزع سلاح الميليشيات، وهو القرار الذي لطالما اعتبر زعيم حزب الله المطالبة بتنفيذه مشروع حرب في لبنان حيث تحاول الولايات المتحدة عبر الانتخابات النيابية المقبلة خلق شرعية نيابية للمطالبة بتنفيذه، بحسب نصرالله الذي انتقل في انتقاده لقيادة الجيش وتصويبه عليها من التلميح الى التصريح الذي أخذ شكل حملة تنكيلية على مواقع التواصل ضد قائد الجيش العماد جوزف عون الذي جال بالأمس على مرجعيات طرابلس الروحية مطمئناً وضامناً ومؤكداً بعيداً عن نواب المدينة، أن طرابلس ليست قندهار «وليست حاضنة للإرهاب».

تصويب نصرالله على قيادة الجيش اللبناني يشي وكأن معركة رئاسة الجمهورية قد فتحت من زاوية استئصال النفوذ الأميركي في مؤسّسات الدولة بحسب مسؤولين في الحزب أخذوا يرفعون وعيدهم ضد تدخل الولايات المتحدة والسعودية والامارات في الانتخابات المقبلة. وتوازياً مع كلام نسب لقيادة الثنائي الشيعي يعكس رفضها وعدم ترحيبها ببهاء الحريري، فقد أبدى حسن نصرالله أسفه لاعتزال سعد الحريري وطالبه بالعودة عن قراره.

المعادلة واضحة اذن، بين تغطية حزب الله وتعريته. اعتزال سعد الحريري يؤدي ضمناً وأساساً الى رفع الغطاء الرسمي والسنّي الذي لطالما وفّره لحزب الله. لكن ما ومن الذي يضمن ألا يضاعف حزب الله من اختراقه للساحة السنية في كل الدوائر من عكار الى العرقوب؟.

كلنا يعلم أن كتلة سعد الحريري الكبرى بُنيت على دماء والده الشهيد رفيق الحريري. وربما يعلم بهاء الحريري أن «استكمال مشروع رفيق الحريري» وقبل الدعم الخارجي يحتاج حتى لا تتبعثر الكتلة الى 14 شباط جديد، ما يعني أن المهمة التي يتجاسر عليها تستوجب منه أن يرتدي الكفن الذي ارتداه رفيق الحريري، ودفع شقيقه سعد ثمن عدم ارتدائه.