بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 نيسان 2020 11:13م «المُديرة عبلة» مدرسة في الوطنية ترحل في الشهر الأحب على قلبها

حجم الخط
مَضَتْ الحاجّة عبلة أحمد الشيخ حسن، عقيلة المُناضِل سليم أبو سالم، إلى بارئها سبحانه وتعالى، بعد مسيرة حافلة بالمحطّات النضالية المُتعدّدة، التي قد تُجدّد مَنْ خاض غمار بعضها، لكن أنْ تجتمع كلّها في شخصية واحدة، فتلك الفرادة التي تستحق التوقّف عندها، والتوثيق والتدريس، لأنّها لن تتكرّر.

الفتاةُ التي وُلِدَتْ في حيفا، وكانت تُداعِب حبّات برتقالها، اضطرّت وهي صغيرة إلى أنْ تُغادِر مع عائلتها مسقط رأسها، إثر غزو العصابات الصهيونية وارتكاب المجازر بحق أبناء فلسطين في العام 1948، لتحطَّ الرحال لاجئة إلى لبنان.

أدركتْ منذ نُعومة أظافرها أنّ سلاح العلم، له وقعه في معركة المُواجَهَة المُقترحة ضد المُحتل الإسرائيلي، فتابعت تحصيلها العلمي، واختارَتْ التربية وسيلة في مُهمّتها النضالية، مُدرِّسة ثم مُديرة «مدرسة الناقورة»، التابعة لوكالة «الأونروا»، والمُخصّصة للإناث في مُخيّم عين الحلوة، وهذه المُهمّة لم تثنها عن مُواصلة تحصيلها الجامعي في بيروت، مع ما يعني ذلك من تكبّد مشقّة التعليم والتعلّم والجهد الجسدي والمادي.

كانت الفتاة السمراء تتمتّع بـ»كريزما» مُميّزة جداً، تجمع فيها بين الهيبة والحسم في آن، مع الطيبة والحب لبناتها في المدرسة، لأنّ الهدف كان تخريج جيل واعٍ ومُتمسّك بنضاله الوطني، تترتّب عليه مسؤوليات كبيرة جدّاً، بما فيها التدبير المنزلي، فالفتاة ستصبح أُمّاً مسؤولة عن أُسرة، وفي ظل أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، ومهمّة ربّ الأسرة النضالية، والتي قد يتعرّض فيها للقيام بمهام وطنية أو الاعتقال أو الأسر والجرح وحتى الاستشهاد، أعباء تُضاف إلى مسؤوليات المرأة.

لذلك، كانت «المُديرة عبلة» تُولي غرس التعليم في تلميذاتها، والذي يبدأ مع ترداد نشيد «فلسطين لن ننساكِ ولن نرضى وطناً سواكِ»، لكن لا ينتهي الأمر عند ذلك، بل تُتابعه مع المُعلّمين والأسرة وأولياء الأمور، وحتى حرّاس المدرسة.

استطاعت أنْ تفرض احترامها على الجميع، بعلمها وثقافتها، وأسلوبها الخاص، وتواضعها ودماثة خُلُقها، فخرّجت أجيالاً أثبتت تجارب الأيام أهمية ما كانت تُدركه ببُعد بصيرتها.

كان لها دور فاعل في التواصل النسوي، ما أتاح لها الصلة اليومية، ومعرفة دقيقة أكثر بتفاصيل واقع الحياة في مُخيّم عين الحلوة.

خارج المدرسة، كانت تُوَاصل مُهمّتها النضالية مع شريك العمر الأستاذ سليم أبو سالم، الذي كان في طليعة كوادر «حركة القوميين العرب»، ومن ثم تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وصولاً إلى تولّيه مُهمّة نائب مسؤول «العمل الخارجي» في الجبهة، التي كان يتولاها المُناضل وديع حداد، وبعد استشهاده في 28 آذار/مارس 1978 أصبح يتولّى المسؤولية.

هذا يعني أنّ منزل العائلة، كان يشهد اجتماعات لقيادات هامة، وفي ساعات مُتفاوتة، وأحياناً المبيت، وفي طليعة هؤلاء أمين عام «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» الدكتور جورج حبش، وديع حدّاد، أحمد اليماني «أبو ماهر»، عبد الكريم حمد قيس «أبو عدنان»، غسّان كنفاني، صلاح صلاح، ناجي العلي وليلى خالد وآخرين، ومن «الجبهة الشعبية» وفصائل وأحزاب أخرى.

كانت مُهمّة «المُديرة عبلة» لا تقتصر على التواصل مع النساء والفتيات، بل أيضاً القيام بمهام أُخرى بنقل رسائل أو معلومات من منطقة إلى أُخرى.

بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في حزيران/يونيو 1982، أرشَدَ العملاء الاحتلال إلى منزل الأستاذ سليم أبو سالم، لكنّه كان قد غادره قبل وصول القوّة إلى مكان آمن في منطقة صيدا، ولاحقاً إلى بيروت، فاعتقل المُحتل «المُديرة عبلة»، في بداية شهر كانون الأوّل/ديسمبر 1982، في عزِّ فصل الشتاء وبرده القارس، واقتادها إلى مكاتب مُخابراته، التي كان يتّخذها في سراي صيدا الحكومي، ومنها نقلها إلى داخل الأراضي الفلسطينية المُحتلّة، فحقّق لها أُمنية أنْ تتنفّس مُجدّداً هواء أرض الوطن، قبل نقلها إلى المُعتقل الذي خصّصه للنساء في «معسكر 33»، في مبنى «الريجي» في النبطية، لكن مسؤوليته تتّبع «مُعتقل أنصار»، وضمَّ 25 فتاة من جنسيات فلسطينية ولبنانية وواحدة تركية.

مارس الاحتلال شتّى أنواع الضغوطات والتعذيب لانتزاع اعترافات منها، لكنّها باءت بالفشل، أمام صمودها، فهي تمتلك كنزاً من المعلومات الهامّة، بما في ذلك عن مُناضلين كان لهم دور في تنفيذ عمليات ضد المُحتل وتجهيز عبوات.

في المُعتقل كانت هي الأكبر سنّاً، فتعاملت مع الأسيرات كبناتها، وبعضهن كُنَّ من تلميذاتها في المدرسة، التي كانت تتولّى إدارتها، فتابعت مسيرتها التعليمية التربوية والتوعوية في حلقات نضالية، إلى أنْ أُطلِقَ سراحها ضمن صفقة تبادل الأسرى، التي جرت بين حركة «فتح» وسلطات الاحتلال الإسرائيلي عبر «الصليب الأحمر الدولي»، في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1983، حيث أَطلق الاحتلال سراح جميع الأسرى في «مُعتقل أنصار»، والبالغ عددهم 4700 مُعتقل لبناني وفلسطيني، و65 أسيراً من سجون الاحتلال داخل فلسطين المُحتلّة، مُقابل إفراج حركة «فتح» عن 6 جنود إسرائيليين كانت قد أسرتهم في منطقة بحمدون خلال غزو 1982.

لم تتخلْ يوماً عن النضال من أجل فلسطين، التي كانت وبقيت بوصلتها الوحيدة.

عندما نكون في زيارة الأستاذ سليم أبو سالم (صديق الوالد)، نستمدُّ منه المعنويات ببُعد بصيرته، تزيد عليها «المُديرة عبلة» جرعات تفاؤل، على الرغم من الظروف الصعبة المُؤلمة.

رحلت بعدما حقّقت غالبية أمنياتها، بأنّها وُلِدَتْ في فلسطين، وكانت على مدى أكثر من نصف قرن رائدة في التعليم والتربية، والإدارة، والنضال، والأسر من قِبل المُحتل الإسرائيلي، وأداء فريضة الحج وتكوين أسرة مع شريك العمر الأستاذ سليم أبو سالم، تتألّف من الأولاد: محمّد، عامر وعبير والمرحوم باسل.

أغمضت عينيها في شهر آذار/مارس 2020، الأحب على قلبها، الذي كانت تحتفل به كإمرأة وأُم ومُعلّمة، فبقيت كل المبادئ الوطنية والقيم التربوية والتعليمية التي غرستها في تلميذاتها اللواتي، نقلنها إلى أسرهن، وإلى كل مَنْ عرفها، نبراساً نضالياً، بأثرٍ بالغٍ في حياة جميع مَنْ عرفها أو سمع عنها.

رحم الله «المُديرة عبلة»، وأسكنها فسيح جنانه، على أمل تحقيق ما لم يتحقّق من حلمها بأنْ تُوارَى الثرى في مسقط رأسها فلسطين، وأنْ يتحقّق نقل رفاتها بعد التحرير، وألهم شريك عمرها المُناضل سليم أبو سالم وأفراد العائلة ومُحبّيها الصبر والسلوان.