بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تشرين الثاني 2019 12:04ص «المجلس الشرعي» مُبارِكاً الإنتفاضة: الدستور ليس وجهة نظر

الاجتماع الموسع للمجلس الشرعي في دار الفتوى الاجتماع الموسع للمجلس الشرعي في دار الفتوى
حجم الخط
بيان المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الأخير قد يكون من البيانات الأكثر أهمية في تاريخه لما تضمنه من مواقف ومساءلات وتنبيهات ورسائل على صعيد الأزمة القائمة، وعلى صعيد الدولة والنظام والدستور، وهو وإن انطلق من «الظروف العصيبة»، نبّه إلى الحاجة لـِ«صحوة ضمير لدى من يتولى مسؤولية قيادة البلاد»، معتبراً أن «الطريق السويّ لذلك هو في العودة إلى احترام الدستور».

والواقع أن حال البلد يكشف في كل يوم أن هناك من يحطّم الدستور، ويتلاعب بالسلم الأهلي، ويغامر بالاستقرار الوطني، وأكثر من ذلك يصرّ على تجاهل التحولات الهائلة التي فرضتها صرخات حناجر شابات وشباب لبنان منذ 17 تشرين طلباً للتغيير ووقفاً للتلاعب بمستقبل الوطن والأجيال من قبل طبقة سياسية لم تحمل يوماً سوى همّ مصالحها. لأجل ذلك، ولأسباب أخرى تتصل بالمحاولات النافرة للعب بورقة التوازن الوطني تارة من خلال الكيدية والانتقائية في الحديث عن الفساد وتحريك الملفات القضائية، وأخرى بالإصرار على التعدي على صلاحيات دستورية مكرّسة بذرائع سمجة، بدا أن مواقف «الشرعي» مهمة وتلاقي اللحظة الراهنة.

الحراك أمل بنهضة مباركة

منطلقاً من «ما يجري من أحداث على الساحة» إذن، نبّه المجلس الشرعي برئاسة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، الجميع إلى «تحمل مسؤولياتهم الوطنية تجاه وطنهم وشعبهم». وإذ لفت إلى «ما يشهده لبنان من حراك شعبي ووطني جامع ومؤثر»، أمل «أن يشكل حالة يقظة ونهضة وطنية مباركة، عسى أن تفتح آفاق التغيير، وتبشر بانبعاث فجر جديد في تاريخ لبنان الحديث، يحمل في ثناياه الأمل ببناء دولة المواطنة، دولة القانون، دولة الحرية والاستقلال والسيادة».

وفي ما يشبه المساءلة، والحال أن الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية والحياتية ليست بخير قبل الانتفاضة الشعبية وبعد انطلاقتها، طمأن المجلس إلى أن «الفتنة لن تقع، والمحنة ستنجلي»، معتبراً أن ذلك «يقتضي من جهة أولى التعالي على المصالح الشخصية والفئوية، والمسارعة إلى اعتماد السياسات والإجراءات الإصلاحية، التي تؤمن وضع البلاد على مسارات النهوض»، مؤكداً أن «الطريق السوي إلى ذلك، هو في العودة إلى احترام الدستور، وتطبيق أحكامه نصا وروحا، لا الخروج عنه». 

في المقابل، نبّه المجلس إلى أن «التلكؤ في سلوك هذا الدرب، يؤدي إلى الخلافات والمنازعات، وإلى مزيد من التفاقم للأوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية والحياتية، ويضرب الاستقرار في البلاد، ويثير الناس على بعضهم بعضا».

وفي موقف يتماهى في بعده الوطني والدستوري مع المواقف التي سبق أن أعلنها رؤساء الحكومات السابقون لناحية رفضهم التمادي بخرق الدستور والمسّ بالطائف وتكريس أعراف نافرة وتؤسس لتوترات قال المجلس إن «المطلوب الاحتكام إلى الدستور، والاستجابة لمطالب الشعب المشروعة، ويكون ذلك بداية وفورا بالدعوة لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة، لتسمية رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها بحسب نص الدستور»، مشيراً إلى أن «لبنان بحاجة اليوم لحكومة إنقاذية من الموثوقين، النزهاء، الأكفاء، تضع نصب عينيها، تصويب المعادلتين الداخلية والخارجية، واستعادة التوازن لدور لبنان ودولته».

المهم في البيان التنويه الذي يرقى إلى مرتبة التبني للانتفاضة، التي وصفها بيان المجلس بأنها ذات طابع سلمي ومستمر «تخطى الانتماءات الطائفية، وأعلن انتماءه الصارم إلى لبنان الواحد الحديث المزدهر، المتحرر من الاعتبارات الطائفية، والتجاذبات الإقليمية الدولية»، ورأى في «صرخة الشباب اللبناني على مدى الوطن، دعوة حارة للاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني»، معتبراً أنه «التحدي الذي يواجه الجميع، ويوجب الاستجابة من الجميع».

لماذا الطائف؟ 

لماذا التمسك بالطائف في كل مفصل ومحطة؟ وهل من رابط بين التوتير السياسي والأمني المتنقل وبين استهداف الطائف؟

على هامش الوضع المستجد بعد تاريخ 17 تشرين، وبالتوازي مع رهان شريحة واسعة من الطبقة السياسية على استنزاف ما حققته ثورة الشعب، ثمة رأي وازن يعتبر أن تكرار هزّ الاستقرار السياسي والأمني تارة من باب السجال الانتقائي حول الفساد واستعراضات فتح الملفات القضائية أو التلاعب بالاستقرار، وتارة أخرى بنبش مراحل مؤلمة من تاريخ لبنان، واستخدام خطاب شعبوي عنصري حول استعادة الحقوق ونشر ثقافة تحالف الأقليات، كل ذلك يقصد منه تكوين رأي عام يرى أن الصيغة التي أقرها اتفاق الطائف سلبت منه حقوقاً، ولا يمكن استعادة هذه الحقوق المتخيلة إلا بتجاوز الطائف والدستور؛ بالممارسة من خلال التعطيل وفائض القوة والمسّ بالصلاحيات واجتياح المؤسسات والمرافق والتمييز بين المواطنين على أساس طائفي، كما جرى خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحديداً، أو بالنصّ لاحقاً وهو ما يريده أكثر من طرف يرى نفسه متضرراً من دستور الطائف ويطمح إما لاستعادة صلاحيات متوهَمة أو تكريس مكتسبات ناتجة عن فائض القوة، أي بحكم الأمر الواقع. 

ما يعزز هذه القراءة، أن الأداء السياسي، قبل ثورة 17 تشرين بكثير، كان يُدار على وقع سياسات التعطيل أو فرض الأعراف غير الدستورية، وعلى افتعال المشكلات وعدم الاهتمام الجديّ بحل الأزمات، المالية والنقدية، المستفحلة، وتكاثر الفساد، وتراجع الفرص، وتفاقم البطالة، وركود القطاعات.. وكل ذلك يعني عند هؤلاء (وهم رؤوس الفساد ومعطلو عمليات الإصلاح) أن نظام الطائف غير صالح لإدارة البلد، وتالياً لا بدّ من نظام جديد!

لقائل أن يقول إن أولويات المرحلة الراهنة في مكان آخر، وأن السجال حول الدستور ليس في محله! لكن الصواب أيضاً أن الدستور يستخدم راهناً بذهنية كيدية، للتعطيل والاستقواء وتضخيم الأزمة. هذا أولاً، أما ثانياً فالطائف (بما هو ضمانة متوازنة لكل المكونات) لم يطبق كاملاً كي نحكم على صلاحيته من عدمها، وثمة قناعة تزداد يوماً بعد آخر أن هناك من لا يريد هدم صيغة الوفاق الوطني بشكل مباشر لاعتبارات معينة (أقلّه حتى الآن) فعهدَ بذلك إلى من يتنقل ناشراً خطاب نبش المآسي، وفتح الجروح، والإغراق في الشعبويات والعنصريات واستعداء المكونات الوطنية! وبهذا المعنى نحن معنيون بالحفاظ على الدستور القائم إلى حين التوافق على آخر مهما كان شكله أو صيغته. 

المشهد يتغير بسرعة. واهمٌ من يظن أن المشكلة هي في الطائف والدستور، وواهمٌ أكثر من يظن أن من يستسهل المسّ بالتوازنات الوطنية ويثير النعرات الطائفية يقيم وزناً للدستور أصلاً.. لكن كل ذلك لا يعفي من مسؤولية المناداة «لإعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها وهيبتها وعدالتها، والتأكيد على استقلالية القضاء، وإعادة الاعتبار للكفاءة والجدارة، وإعادة الاعتبار للانسان في لبنان».. وهو ما قصده المجلس الشرعي، والأمل بأن يجد آذاناً صاغية وقلوباً تحمل همّ الوطن.