استمعت واستمع غالبية الشعب اللبناني إلى الحديث التلفزيوني الصادق والشجاع الذي أدلى به وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال الدكتور طارق المجذوب مؤخراً. وقد هال اللبنانيين ما سمعوا من معلومات كشف عنها الوزير النظيف حول الدرجة التي بلغها الفساد في مؤسسات الدولة في ظل سياسة المحاصصات الزعائمية والطوائفية ومنها وزارة التربية والتعليم العالي التي كان حري بها أن تكون بمنأى عن هذا الطوفان الأسود الذي أغرق المجتمع والبلد ما دامت مؤتمنةً على الأجيال اللبنانية الطالعة. فأي دور للتربية يبقى وحال القائمين عليها تُفصح عن كل أشكال السقوط الأخلاقي والتربوي؟ ولقد كان الوزير المجذوب مقداماً بل أقول «انتحارياً» في سبيل الشهادة التي أصرّ على إعلانها على الملأ غير أبهٍ بالأصوات النشاز التي ارتفعت بوجهه تهديداً ووعيداً وتشويهاً لسمعته التي يعلم القاصي والداني أنها فوق كل الشبهات. وليس ما قام به الوزير المتفرّد في شجاعته بين غيره من الوزراء الذين عهدناهم على مدى عقود، يعود فحسب إلى مناقب شخصية فيه وعائلية رفيعة ورثها عن والده وهو من هو؟ مربي الأجيال الجليل في الجامعة اللبنانية وأحد أبرز رؤسائها وعمدائها، وكذلك في جامعة بيروت العربية، والدستوري الكبير في المجلس الدستوري، والعروبي الوطني الذي لم يستسلم قط في زمن الانبطاح العربي الدكتور المرحوم محمد المجذوب، إنما يعود أيضاً إلى مجموعة من المعطيات الموضوعية والشروط العامة التي كنا ولا نزال نبحث عنها في الشخصيات التي تستحق أن توزّر وأن توضع فيها ثقة الناس. فالوزير المجذوب هو:
أولا: وزير من خارج منظومة الفساد والفاسدين، مستقل غير تابع لأي جهة حزبية.
ثانياً: من أوادم هذا الوطن المشهود لهم في مهنته في سلك التعليم الجامعي وفي موقعه القضائي في مجلس شورى الدولة. يحب وطنه. لم يخنه ولم يسرقه ولم ينهب أمواله العامة ويهربها إلى مصارف الخارج.
ثالثا: نموذج وطني مطلوب تعميمه في مواقع المسؤولية إذا كان ثمّة أمل بعد عند المؤمنين ببقاء هذا الوطن مهما كانت الصعاب شديدة والتحديات بالغة.
لقد تحمّل الوزير طارق المجذوب أعباء ثقيلة جداً في وزارة التربية ترجع إلى عقود طويلة من الممارسات اللاقانونية التي جعلت موظفاً في الإدارة في موقع الندّ لوزيره، متسلحاً بكل أنواع التجاوزات والتغطيات التي يتلقاها من زعيمه السياسي الذي يكون ولاؤه له فقط. ولم ير الوزير المجذوب حرجاً في أن يكشف هذه الحقيقة المأساوية للناس التي عانى منها في وزارته طيلة الأشهر التي قضاها فيها لكي يحذرنا جميعا من مخاطر استمرار هذا النهج المدمرللوطن. كما لم يتوان الوزير النزيه عن تقديم صورة واقعية عما يجري داخل مكاتب الوزارة وأروقتها؛ حيث المخالفات التي يقوم بها الموظفون، كباراً كانوا أم صغاراً في الرّتب، قد بلغت عنان السماء، وسدّت كل الأبواب بوجه المواطنين وحقوقهم في الحصول على الخدمة العامة من غير ابتزاز أو تأخير. وبذلك جعل الوزير المجذوب من نفسه خادماً حقيقيا للشعب إذ أبى إلا أن يكون عيونه التي يرى بها وأذنه التي يسمع بها ولسانه الذي يتكلم به بصوت عال لا يخشى في الحق لومة لائم. كما جعل من نفسه شاهداً أصيلاً على العصابات التي تهدر أموال الشعب وتطيح بحقوقه من أجل أن تتربح شخصياً على حساب الوطن وكرامة المواطن.
لقد استطاع الوزير المجذوب أن يقوم بما قام به من دون أي تردد واعداً بمواصلة الدرب الصعب رغم العوائق والزعيق والنباح بوجه قافلة الحقيقة، من دون أن يكون له أي غطاء سياسي، ومن دون ميليشيات تصدّ عنه، أو أزلام وزعران يعتدون على الناس جهراً من أجله، والأهم من ذلك كله من دون حمايات طائفية أو مذهبية مزعومة قد ضرب بها الوزير عرض الحائط. فلا خطوط حمراء عنده بحسب تأكيده في الحديث التلفزيوني إلا ما يحفظ مصالح الشعب وحقوقه وكرامته ليس في العيش فقط بل في معرفة الحقيقة أيضاَ.
لن نطيل الحديث أكثر إذ سيكون له تتمات لاحقة ما دامت معركة الحقيقة وكشف الفساد من جذوره بغية الوصول إلى اليوم الذي يستطيع فيه الشعب اجتثاثه، هي المعركة الأولى للناس اليوم التي ينبغي ألا يعلو صوت فوق صوتها الهادر. وإذا كان الوزير المجذوب قد صدق وعده في فضح كل ما يجب فضحه في وزارته أمام مرآى ومسمع اللبنانيين جميعاً، مستحقا بذلك تقدير شعبه وثقته الكاملة فيه، فإن وزراء آخرين مدعوون لأن يحذو حذوه ويكشفوا عما يجري من أنهار فساد تحت كراسيهم، إذ عن غير هذا الطريق الذي نقاوم به جميعا كل في موقعه وفي مهنته لن يبقى لنا وطن نرفع رايته ونموت من أجله.