لعلّها مفارقة أن تأتي الذكرى السنوية الثانية لـ«17 تشرين» وسط استرجاع البلاد ذكريات مآسي الحرب الأهلية بعد ما حدث في منطقة الطيونة، حيث اتضح أن أفرقاء لم يتعظوا من كل ما جرى خلال سني الحرب أو خلال أحداث اهلية متفرقة كادت تودي بالسلم الهش في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف.
بات واضحا ان مرتكبي الحرب يمكنهم في سرعة قياسية نزع ثوبهم المدني والدستوري للانتقال الى الخنادق حيث يقتتل الفقراء ويموتون على مذبح إعادة التحاصص بين قوى منظومة السلطة على أساس طائفي ومذهبي ومصلحي.
وقد حدث ما حدث في 14 تشرين الأول قبل أيام قليلة من ذكرى 17 تشرين التي خرجت على جميع اهل السلطة موحَدة في وجه من يريد الإفلات من عقاب سرقة الشعب ودفعه الى حافة المجاعة. وكان ذلك قبل نحو عام على جريمة هزّت الوجدان في مرفأ بيروت ستكون كما سابقاتها من الجرائم من دون حساب للمتسبب الفعليّ بها، بينما قد تتم التضحية بتابعين صغار لقوى السلطة، وهو أمر يعلمهم اهالي ضحايا مأساة المرفأ برغم كل مكابراتهم ونضالهم في سبيل الحقيقة.
على أن احداث الخميس الدامي الأخير جاءت بينما يتسارع الإنهيار باضطراد بينماتترسخ عملية نهب مقدرات الدولة وودائع المواطنين في المصارف، أما هستيريا سعر صرف الدولار الأميركي والانهيار الدراماتيكي لقيمة النقد الوطني الى حدالإطاحةبه، فقد اصبحت حقيقة لا تقبل الثورة أو حتى الاحتجاج بالنسبة الى اللبنانيين الذين ألهتهم السلطة عن واجباتهم لصالح التوجس بهمومهم المعيشية والانسانية!
هذا ما يجيب على سؤال استنكاف اللبنانيين عن واجبهم الاحتجاجي الذي خرجوا به بعفوية في 17 تشرين 2019، قبل ان يتعرضوا لشتى انواع الترهيب والتقسيم والتغلغل السلطوي لحرف الانتفاضة الشعبية عن مسارها، من دون اعفاء شرائح من الحراكيين من مسؤولياتهم في تخريب الحدث السلمي من ناحية، وفي تبني شعارات لا تفعل سوى في إفشال نضالهم الخارج عن الطوائف والمذاهب والمُنعتق من سياسة المحاور والتغلغل الخارجي.
لكن الأمر كان خارج قدرة المنتفضين على التنظيم ومقاومة مقتحمي الحراك من متسلقي الأحزاب الذين اختزلوا مشهد الانتفاضة وحرفوا الانظار عن صنّاعه الحقيقيين في أيامه الاولى.
لا يمكن لأعظم معادي هذا الحدث الذي ليس بعده كما قبله، إنكار هذه الحقيقة ووصم ظاهرة 17 تشرين بما ليس فيها. ومن ناحية قوى السلطة، فعلى رغم مخاصمتها لمن شوّه الحراك من قوى منتفعة وانتهازية، فإنها فعلت هي الاخرى في ممارساتها المافياوية لحماية أركانها، مستفيدة من التراجع في زخم الإنتفاضة، لتسلم زمام المبادرة ومحاصرة كل محاولة للتغيير في السياسة والقضاء وحتى داخل المجتمع نفسه وما عرفت بقوى التغيير.
وبهذا الواقع المخزي يحضر مشهد الحرب في الطيونة الذي تقاتلت فيه قوى السلطة مستحضرة ما لا يريد اللبنانيون تصديقه من ظاهرة السلاح والتفلت الامني، وفي موازاته مشهد عجز القوى العسكرية والامنية إزاء ما يحدث، وهي التي تعلم تماما بأن انقسام المؤسسات بما فيها العسكرية ليس صعبا للتكرار كما حدث منذ الاسابيع الاولى للحرب الأهلية.
تيارات أو جبهات غير رسمية
اليوم تواجه قوى الحراك تحديا خاصا هو الاول من نوعه في هذا الحجم ويتعلق بمعركة الانتخابات النيابية التي يخوضها هؤلاء، برغم قلة خبرتهم في غالبهم الاعم في استحقاقات كهذه وحداثية شبابهم في مواجهة خبرة السلطة.
يرفض هؤلاء التحالف مع أي من قوى المنظومة، ونتحدث هنا حتى عن قوى انخرطت معهم في انتفاضة الشارع. إلا أن الحراكيين الحقيقيين يرفضون قوى كـ«القوات اللبنانية» وحزب «الكتائب»، وشخصيات شاركت في النظام منذ ما بعد اتفاق الطائف وأخرى ذات مشارب «إقطاعية».. وهذا ما سيُصعب مهمتهم في التغيير. واذا شاء هؤلاء ام أبوا، فإن التحالف مع قوى تغييرية أو تدعي التغيير لا مناص منه وهو ما ستثبته الايام عن كثير من المجموعات والشخصيات التي تحتاج قوى في السلطة التحالف معها أيضا.
وخارج جبهة الطوباويين من قوى الحراك، تتشكل جبهات حراكية لم تتبلور حتى اللحظة بمشاركة تلك القوى المرفوضة من قبل القوى المنتفضة تحت ستار «17 تشرين». اضافة الى ذلك ثمة توجه الى تشكيل جبهة غير مواربة في رفع شعارات سيادية وحتى تقسيمية وهي ليست على يمين الانتفاضة (اذا كانت تمثل جزءا منها) فقط بل على يمين النظام برمته ومنه اتفاق الطائف.
ولليسار حضور لم يؤطر حتى اللحظة وقوامه من ولج في 17 تشرين منذ اندلاعها مثل «الحزب الشيوعي» وشخصيات ذات احترام مثل أسامة سعد، ومجموعات ذات حضور في الانتفاضة خاصة في بيروت والجنوب. اضافة الى قوى تعمل على صياغة جبهاتها في الشمال، لا سيما في طرابلس عروس الثورة»، والبقاع وغيرها من المناطق.
يمكن تسميتها بتيارات رئيسية متعددة أكثر منها جبهات متشابكة، على ان الوقت يداهم كل المجموعات وقد تلِد الجبهات أُخرى قبل الانتخابات، وثمة من يقول ضمن قوى الانتفاضة ان تأخير موعد الانتخابات سيكون لصالح الانتفاضة، بينما يشير آخرون الى ان قوى السلطة هي من ستفيد من ذلك لترسيخ تبعية شرائح اجتماعية معينة لها تعاني جراء الازمة الاجتماعية المستفحلة وباتت في حاجة الى منظومة السلطة في الاعاشات والخدمات.
في كل الاحوال سيكون على الانتفاضة، وبغض النظر عن الخرق الذي ستحققه في الانتخابات في مشهدها الفسيفسائي، الانتظار طويلا قبل تحقيق التغيير المنشود لكن رغم سوداوية ما استحضر في الطيونة، خط التماس الطائفي الذي لا ينضب اقتتالا ودماء، فإن حراكيي ما قبل تاريخ 17 تشرين ومن انضموا إليهم معه وبعده، يستمرون في نضالهم السلمي في سبيل وطن حقيقي ولأجل قيام دولة عادلة، من دون وهم التغيير الآني، بل الذي يتخذ أجيالاً ربما في ظل ترسخ الواقع اللبناني الطائفي المانع للتغيير.
وبهذا ليس الاستنتاج صعباً بأن 17 تشرين، التي جاءت بعد سنوات أربع على انتفاضة النفايات، ستكون على موعد جديد تحت مسميات أخرى متجددة طالما بقيت السلطة على ازدرائها للبنانيين ومنعها التغيير بالواقع كما بالقانون والدستور الذي تهيمن على عملية تعديله أو استبداله عبر تجديدها لنفسها على الدوام.. منذ نشأة الكيان الذي لم يرتق إلى مصاف الوطن.