بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 كانون الثاني 2020 12:04ص بـيـنَ عـُــزلـتـيـن

الحاكمُ الواثق لا يخشى الشعب والسلطة الخائفة لا تحميها الجدران

جدار الحصار امام ساحة النجمة مساحة للابداع (اللوحة للفنانة الناشطة رولا عبود) جدار الحصار امام ساحة النجمة مساحة للابداع (اللوحة للفنانة الناشطة رولا عبود)
حجم الخط
يبدو أن الرئيس حسان دياب فهمَ المسألةَ خطأ من نزول الناس إلى الساحات والشوارع رفضاً للفساد والظلم والتجويع والإذلال والمحاصصة وهيمنة السلاح. فبدل الاستماع لصرخات الموجوعين ولمقتضيات المصلحة الوطنية، عَزلَ نفسه مرتين؛ مرة بالابتعاد عن مزاج بيئته وتخطي مرجعياتها وممثليها، فقبلَ بتجاوزِ اعتباراتٍ ميثاقيةٍ ووطنيةٍ ودستوريةٍ، مفضلاً تمثيل مصالح مجموعة أحزاب حصراً مقابل إيصاله للحكم. وعزلَ نفسهُ، مرة أخرى، وراءَ جدرانٍ اسمنتية تنتمي لزمنٍ آخر، وبدلَ الانكباب على حلّ الأزمات المستحكمة، أعلى سوراً يفصله عن الناس، بعدما تحصّن، في سابقة غير دستورية، داخل السرايا وسكنها قبل أن ينال ثقة النواب حتى!!

لا شيء يفسّر إقامة جدار عزل في وسط بيروت سوى قرار أحمق للسلطة المتحكّمة والتائهة بالانحياز إلى الخيار الأمني في التعامل مع المنتفضين. هذه الشبهة تعزز تفسير بعض ظواهر العنف الذي حصل في الفترة الأخيرة بأن وراءها اختراقات سلطوية وأمنية ومليشيوية لجسم الانتفاضة بهدف شَيطنتها أو مَذهَبتها تمهيداً لمحاصرتها وتبرير العنف ضدها... أما ادّعاء الخوف من حناجر شابات وشباب يمثلون أرقى أشكال التمرد السلمي، فباطلّ.  

بعد أكثر من 100 يوم على انطلاق انتفاضة 17 تشرين، اختارت سلطة تحالف السلاح والفساد الحل الأمني والعصا الغليظة والرصاص المطاطي في التعامل مع الشعب، بدل محاورته أو إيجاد الحلول للأزمات المستفحلة.. أو التنحي طوعاً وفتح المجال لاستيلاد سلطة جديدة تتمتع بالشرعية الشعبية والدستورية لتشرف على إنقاذ البلد. هكذا تبدو الطبقة السياسية وكأنها لم تتعلم شيئاً، ولا تريد ذلك، فتمعن بالرهان على الأوهام والهرب إلى الأمام والإشراف على الانزلاق نحو المجهول.

بين سلام والحريري

يسجل التاريخ الطري جداً، بفخر، للرئيس تمام سلام أنه أَمَرَ في 25 آب 2015، بعد ساعات قليلة من لجوء القوى الأمنية إلى إقامة جدران اسمنتية عازلة حول مقر السرايا، بإزالتها فوراً، وإتاحة المجال أمام المحتجين حينها ضد الفساد وأزمة النفايات للتعبير عن رأيهم بحرية. كذلك يسجل للرئيس سعد الحريري أنه لم يفعلها بوجه متظاهري العام 2016، بل سعى يومها إلى التحاور مع المحتجين بالرغم من محاولة بعضهم رشقه بزجاجات الماء، وهو استقال بعد اندلاع ثورة 17 تشرين بـ 13 يوماً فقط، مفضلاً خيار ترك السلطة على مصادمة رغبة الناس. 

قبل ذلك، اختار الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2008 الاعتصام داخل مقر السلطة التنفيذية، وإدارة الشأن العام شبهَ محاصر داخل السرايا التي قطعت معظم طرقاتها بفعل «اعتصام» قوى 8 آذار لنحو سنة تقريباً في ساحات وسط بيروت وإغلاقها وتدمير اقتصادها وسياحتها، ولم يلجأ لخيار جدران الفصل.

تناقضات حسّان

في المقابل، سيكتب حسان دياب في كتابه التوثيقي الذي سيصدره لاحقاً عن تجربته في الحكومة أن من أولى «إنجازاته» إقامة جدار عزل يفصل السرايا عن وسط العاصمة، أو يفصلها عن الشأن العام ومزاج الناس بشكل أدق، أما الحجج والتبريرات فستكون جاهزة، تماماً كتبريره السكن في مقر رئاسة الحكومة قبل نيل الثقة. عزلةٌ لا تقتصر على الإقامة وشرعية التمثيل فحسب، بل تنسحب على المزاج العربي والدولي الخجول إلى حدّ الشبهة في التعامل معه حتى في بديهيات الأصول والأعراف الديبلوماسية، وهذا ما يتنافى تاريخياً في التعامل مع مقام رئاسة الحكومة!!

ثم إنّ لحسان دياب سوابقُ في التناقض. في لحظة إعلان تشكيلته الحكومية صرّح بأنه هو وفريقه الوزاري يمثلون الثورة في السلطة التنفيذية! بينما كانت حناجر المنتفضين وصفحات التواصل تفيضُ بإعلان الخيبةِ من حكومة المحاصصة وممثلي أحزاب السلطة الفاسدة. ليس هذا فحسب، فهو روّج لحكومة بُعيد تكليفه تكون رشيقة من 18 وزيراً، فخرجت عشرينية فضفاضة فقط لإرضاء طمعِ من سمّاه، وتحدث عن تكنوقراط – مستقلين، فخرجت بمحاصصات نافرة للأحزاب، وتحدث عن حكومة بوجوه جديدة، فإذا بمعظم أعضائها يمثلون أشباح وأدوات ومساعدي من خرج!!

الجدار كفضاء للتعبير  

عزلةُ المكان والموقع والتمثيل والمقرّ والشرعية لدى الحاكم، أيّ حاكم، تعكسُ فائضاً في التحيز والغَرَضية «prejudice» مع قناعة بفقدان مشروعية التمثيل، وعزلة عميقة تفصله عن الثقة بالذات، وعن تقاليد وطقوس الحكم، وعن هموم وأوجاع وأولويات الناس، وعن تجارب التاريخ في مصائر الحُكام المتحصنين خلفَ الأسوار خوفاً من غضبة الشعب.

حسناً فعل الثوار بجدار العار، إذ حولوه إلى مساحة للابداع والفن، وإلى منبر حرّ وفضاء للتعبير عن آلام الشعب وطموحاته. هكذا حوّلوا الاحتفال بمئوية الثورة الأولى من شهادة على انهيار الأمن، وانهيار الليرة، وانهيار الأعمال والفرص والأحلام، إلى مؤشر صارخ لانهيار الطبقة السياسية وسلطتها المتحكّمة، ولإعادة التأكيد أن أمامهم واجب الصمود حتى تحقيق الأهداف التي يختزنها الشعار – الأيقونة «كلن يعني كلن» بما يحمله من دلالات ومطالب وخطوات ومعاني ومواقف.

بأسوارٍ أو من دونها، بجدران أو عوازل أو أسلاك.. المهم والثابت والأكيد أن انتفاضة 17 تشرين كتبت السطر الاول والثاني والثالث في نهاية عمر السلطة الحاكمة والطبقة الممسكة بها منذ عقود. البقية ستأتي لاحقاً بدون شك، لكن دون ذلك سجالات وعنف وجدرانُ عزلٍ وخراطيم مياه وعصيّ ورصاص – وربما أكثر - وكلّ ما يمكن أن تتخيل فيه السلطة أداة قادرة على ترهيب الناس وصرفهم عن المطالبة بالتغيير واستعادة تحكّمها. وفي الطريق إلى إنجاز الانتفاضة - الحلم، تبدو حكومة حسان دياب كالظمآن الذي يحسب سراب الموقع ماء، وهو في حقيقة الأمر مجرد أوهامٍ بأوهام.