1- في هذه الآونة الأخيرة، ورغم شواغلي الكثيرة والملحَّة بالشأن اللبناني، بذلتُ المستطاع لمتابعة الحدث الأفغاني، وقائعَ وتعليقاتٍ وقراءات. ولا أكتم القارئ أني في متابعتي كنتُ مهتماً على نحو خاص بالجانب الأخلاقي من الحدث، ومن المنظور الكلّي في السياسة الدولية، وبطبيعة الحال لناحية انعكاس ذلك على منطقتنا العربية وقضاياها.
2- وفي صدد الحديث عن المسؤولية الأخلاقية المترتّبة على قيادة العالم، أكانت هذه القيادة متمثّلة بالدولة الأعظم (الولايات المتحدة بواقع الأمر) أو بهيئةٍ عليا سامية وجامعة (الأمم المتحدة ومجلس الأمن مبدئياً)، وفي مناسبة الانسحاب الأميركي من أفغانستان «على نحو ما حصل»، أتى على خاطري ما أعتبره أصلَ الحكاية في تلك «العَظَمة»: المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأميركي ولسون عام 1918 (في الكونغرس أولاً) ثم عام 1919 في مؤتمر الصلح بباريس مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تلك النهاية التي شقَّت الطريق أمام الزعامة الأميركية الأحادية، وإنْ اتَّجهت إلى ثنائية مع نشوء المعسكرين الأيديولوجيين، لتعود إلى أحاديتها مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين عام 1989، ثم لتعود من جديد إلى الأقطاب المتعددة مع تغير بعض اللاعبين.
أعدتُ قراءة تلك المبادئ، فوجدتُ أنَّ الخمسة الأولى والأساسية والكُلّية منها «مبادئَ اخلاقيةٌ بامتياز» على الصعيد العالمي؛ وهي كما يلي:
1-اتّباع الدبلوماسية العلنيَّة، بعقد معاهدات علنيَّة؛
2-احترام حريَّة البحار في السلم والحرب؛
5-إزالة الحواجز الاقتصادية بين الشعوب بقدر الإمكان؛
8- خفض التسلُّح إلى القدر الكافي للمحافظة على الأمن الداخلي؛
26- تسوية المنافسات الاستعمارية، مع مراعاة رغبات السكّان ومصالحهم.
تلك المبادئ الخمسة طرحها الرئيس الأميركي بوصفها قواعد للسلام بعد الحرب العالمية الأولى، وأساساً لمجتمعٍ دولي جديد يقوم على حق تقرير المصير، بما يعني «تصفية الاستعمار القديم». وعليه فقد كان لتلك المبادئ، ببنودها وغاياتها (أو فلسفتها) أثرٌ بالغ في العالم كله، وأثارت آمالاً كباراً في كل مكان. فهل بهذه المبادئ يُخامرنا شكٌ في أن تلك المبادرة كانت أخلاقيةً إنسانيةً في جوهرها، وأنها كانت صوتَ الإنصاف والعقل وسط ضجيج القوة الظافرة وزَهْوِ الانتصار؟
3- أمثولةُ ولسون التأسيسية الإيجابية استحضرْتُها لديَّ- كما أشرت- في مقابل أمثولة الرئيس بايدن (الديمقراطي أيضاً) المعاكسة، لجهة قراره الانسحاب من أفغانستان بطريقةٍ مخزية شكلاً وملابساتٍ ملتبسة، وليس بفكرة الانسحاب بحدّ ذاتها. فلقد أجمعت تعليقاتُ مسؤولين أميركيين كبار، سياسيين وعسكريين، وحتى من داخل البيئة السياسية الديمقراطية الأميركية، على أنَّ هذا الانسحاب كان ينبغي أن يحصل قبل نحو عشر سنوات مع القضاء على بن لادن. وبعضُهم ذهبَ إلى أبعد من ذلك، ليرى وجوبَ حصوله مع انسحاب بن لادن من بيئته الحصينة في «تورا بورا».
لقد انسحبت الولايات المتحدة بعد أن فشلت في تحقيق أيٍّ من الأهداف المعلَنة لاحتلالها أفغانستان عام 2001؛ إذْ كان يُفترض أن تتركَ وراءَها- على الأقلّ- مشروعَ دولةٍ تستطيع القيام بمهامها في رعاية مواطنيها، وأن تترك ممارسةً ديمقراطية ومبادرات تنموية أفضل، متلائمة مع طبيعة البلاد وأهلها وتقاليدها. وهو ما لم يحصل! كذلك انسحبت دونَ التشاور والتنسيق مع حلفائها وشركائها الاستراتيجيين (كما تقول وتكرر دائماً)، باستثناء عدوّها المُعلن (طالبان)! وهذا ما يذكّرنا بنقيضه الذي أعلنه الرئيس ولسون في البند الأول (أ) من مبادئه الشهيرة (الشفافية في مسألة العلاقات الدولية). وهو ما يطعن أيضاً في التزام الإدارة الأميركية الحالية مسؤولياتها الأخلاقية والاستراتيجية الدولية والإنسانية.
تتماثل هذه التصرفات للإدارة الأميركية، بما قامت به في المنطقة العربية- في العراق وفي سوريا واليمن، وكذلك في فلسطين- وهو ما يعبّر عن عدم استقرار في سياساتها، وبما يؤشر ليس فقط إلى فشلها في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها بأنها نصيرة للديمقراطية، وحريصة على احترام حقوق الإنسان، وانها المرجعية باحترام المعايير الأخلاقية، بل وبما يعبّر عن قلّة دراية وعدم تبصّر من قبلها، وكذلك بارتكابها أخطاء تاريخية بسبب تردّدها وتقاعسها عن إيجاد الحلول الحقيقية للمشكلات وللأزمات التي أسهمت في تعقيدها في تلك البلدان، وبحيث كانت حصيلة تدخلاتها عليها التسبب بالتدمير لا بالتفجير، وأنها تتركها بحال أسوأ مما كانت عليه، كما أنها أدّت إلى أن أصبح العراق فريسة الهيمنة الإيرانية التي امتدّت لتسيطر ونسبياً على كل من سوريا ولبنان واليمن، وذلك بنتيجة عدم التبصر الذي مارسته الإدارة الأميركية في تدخلها أو في سياساتها في هذه البلدان.
4-لقد فوجئ العالم من أقصاه إلى أقصاه كيف تكرّر الولايات المتحدة أخطاءَها، دون أن تتَّعظ من الدروس المستفادة في أكثر من مكانٍ أرسلت إليه قواتها المسلحة تحت ذرائع وأهداف مختلفة.
يُروى عن رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل أنه كان يقول: «تهتدي الولايات المتحدة دائماً إلى الخيار الصحيح، ولكنْ بعد أن تجرّب كل الخيارات الأخرى الخاطئة. لماذا؟ لأنَّ لديها تَرَفَ وإمكانيةَ اعتماد مختلف الخيارات المتاحة، إلى أن تهتديَ إلى الخيار الصحيح!». والحال أنَّ ما فعلته الولايات المتحدة في أفغانستان، دخولاً وخروجاً، انها تصرَّفتْ مثل «فيل» يدخل محلاً لبيع الأواني الزجاجية: فهو عندما يدخل يكسر كلَّ ما يقف في طريقه، وعندما يحاول الخروج يكسر كلَّ ما بقي في ذلك المحلّ غيرَ مكسور!! وهو ما أصبح عليه الحال في تلك البلدان من تكسير وتخريب لنسيجه الوطني.
5- في ضوء ما تقدَّم، فإن السؤال الكبير: ماذا فعلت الولايات المتحدة في حربها المعلَنة على الإرهاب والتطرُّف؟ باختصار لم تحقّق الهدف المنشود! على العكس من ذلك فإنّ أقوى الاحتمالات- على ما بدا لكثيرٍ من المراقبين- هو أنْ تعود أفغانستان مجدَّداً مكاناً جاذباً للمجاميع الإرهابية على اختلاف أجنداتها والارتباطات، وأن تكون في الوقت ذاته مكاناً لتزاحمٍ إقليميٍ ودوليٍ شرس، يحاكي ما آل إليه الوضع في سوريا! تُرى، هل هي عودةٌ «ديمقراطية» إلى شعار «الجمهوريين» الذي أطلقته كوندوليزا رايس على عهد الرئيس بوش الابن (الفوضى الخلاَّقة)، أم هي متابعةٌ لجوهر السياسة الترامبيَّة- إذا كان لهذه السياسة من جوهرٍ عقلانيّ ومفكَّرٍ فيه- القائمةِ على شعار ضمنيّ هو «دَع الآخرين، كلَّ الآخرين، يدفعون الأثمان، وكُنْ أنت (أميركا) الرابحَ الأكبر!». والحقيقة أنَّ الرئيس ترامب- وبسبب مزاجيَّته وارتجاليته- لم يكن يملك الفطنةَ الكافية للتَّوْرية على هذا الهدف؛ إذْ إنه كانَ أوْضَحَ المجاهرين بالقول: «لسنا مستعدّين لان ندفع ثمن الوفاء بالتزاماتنا حيال الأصدقاء والحلفاء والقانون الدولي. فلْيدفعوا هم هذا الثمن، وبالعملة الصعبة!». ذلك إلى «مآثره» في تجاوز، بل تحطيم، قرارات ومبادئ وبُنَى الأمم المتحدة!
6- ومما يقوّي الاحتمالين المشار إليهما أعلاه (الفوضى الإرهابية والتزاحم الشرس على أرض أفغانستان) معطيان أساسيّان:
الأوَّل، أنَّ الولايات المتحدة لم تترك وراءَها مشروعَ دولةٍ وطنية في أفغانستان، قادرةٍ على النهوض بمسؤولياتها حيال مجتمعها، عدالةً وإنصافاً ورعايةً ورؤيوية. هذا فضلاً عن أنها خلَّفت بِنْية اقتصادية لا توفّر الحدَّ الأدنى من مقومّات الاستقرار على طريق التنمية، ناهيك عن البِنْية القبليّة التي ازدادت مع الاحتلال الأميركي استغرافاً في قَبَليّتها، أي ابتعاداً عن التمدُّن، لدرجة أنَّ خطوةً متواضعة على طريق تعليم المرأة ومشاركتها في إدارة الشأن العام عادت إلى الانتكاس!
هذا ما ينقلنا إلى المعطَى الثاني، متمثلاً بالصراع الإقليمي والدولي المحتملِ تفاقُمه حول أفغانستان وفيها. ذلك أن العالم بدأ يشهد تحفُّزاً قوياً للعودة إلى حروبٍ باردة، ليس بين قطبين فقط كما في الماضي، وإنما بين قُطبيّات كبرى ومتوسطة وصغرى، بما فيها مشاريعُ قائمة على محاولة استرجاع ماضٍ امبراطوري مضى وانقضى: روسيا، إيران وتركيا مثلاً. وبين هذا وذاك وذلك، تَحارُ بعضُ القوى الكبرى في أوروبا وآسيا (فرنسا، ألمانيا، واليابان مثلاً) كيف بإمكانها المحافظة على استمرار حضورها محترماً على رقعةِ الشطرنج هذه!
بموازاة ذلك أنفقت الولايات المتحدة على دوام احتلالها لأفغانستان مدَّة عشرين عاماً نحوَ ألف مليار دولار. يُضاف إلى ذلك، ما أنفقته الدول الأخرى المتحالفة مع الولايات المتحدة في الحرب في أفغانستان، وهي مبالغ ليست بالقليلة. المُذهل والمُحزن، ما تبيَّنَه الأرقام والجداول من أنَّ أقلَّ من اثنين بالمائة من هذه المبالغ قد أُنفق على التنمية في هذا البلد. «فلا عجبَ، والحالةُ هذه، أنْ تستقرَّ أفغانستان في قاعِ جداول المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية. كذلك أمسى اليوم جلياً أنه يستحيل بناءُ دولةٍ وطنية فعليَّة بأيدي دُخلاءَ أجانب، حتى مع السَّخاء في افتراض النيَّات الحسنة»، على ما كتب محمود محيي الدين في «صحيفة الشرق الأوسط (25 آب/أغسطس 2021).
وهنا يبرز السؤال: ألم يكن من الممكن والأفضل لو أنّ الإدارة الأميركية خصّصت جزءاً أكبر من المبلغ الذي أنفقته على الحرب من أجل التنمية والتعليم، وبما يعود بفائدة أكبر على الأفغانيين، وبما يعود بمردود أخلاقي أكبر على الولايات المتحدة وبالحد الأدنى.
7- ما استوقفني في هذه المتابعة أنَّ المعلّقين الغربيين، ولاسيما الأميركيين من بينهم، كانوا الأشدَّ انتقاداً للتجربة الأميركية في أفغانستان، ومن ثمَّ في العراق، من الناحية الأخلاقية الاستراتيجية. كانوا الأشدّ حتى بالمقارنة مع المعلّقين الشرق أوسطيين، بمن فيهم العرب! ويأتي في طليعة هؤلاء «الأخلاقيين»- على ما قرأتُ أخيراً- المؤرّخ الأميركي ماكس هاستينغز، في مقال مطوَّل نشرته «الشرق الأوسط» بتاريخ 20 أيلول/سبتمبر 2021.
يبدأ المقال بالمشهديَّة الدراماتيكية التالية: «كان هناك الكثير من اللحظات المظلمة خلال العقدين الماضيين منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، بعضُها في كابول الشهر الماضي. ومازالت لقطةٌ من العراق عام 2007 تطاردني على نحو خاص: كانت المستشارة السياسية البريطانية (إيما سكاي) تستقلُّ مروحيَّة بلاك هوك مع القائد الأميركي الجنرال ريموند أوديرنو. في الأثناء، وعبر اتصال داخلي، ذكرت لرئيسها في بريطانيا أنها لمحت كتابةً على جدار أجد المباني في بغداد تقول: «البطل الشهيد صدَّام حسين!». وإذْ سمع الجنرال الأميركي هذا الكلام، ردَّ باقتضاب أنَّ الديكتاتور المشنوق ارتكب جرائم قتل جماعي. ولكنَّ سكاي، التي كانت تهوى العيش في قلب الخطر، قالت: «ما زلنا لا نعرف مَنْ قتل مزيداً من العراقيين، أنتَ أم صدَّام يا سيّدي!». ساد صمتٌ قاتل في المروحية، وحتى رئيس سكاي البريطاني في الطرف الآخر تساءل عما إذا كانت المستشارة قد تمادت أم لا! بعد هذا صرخ الجنرال أوديرنو فجأةً: «افتحوا الأبواب أيها الطيارون، وألقوا بهذه المرأة في الخارج!».
ويعلّق هاستينغز على هذه الواقعة بقوله: «تستحقّ سكاي الاحترام، لأنها لم تُسمِع الجيش مطلقاً ما يريدُ سماعَه».
وإذْ أشار هاستينغز إشارات لاذعة إلى «عنجهيَّة السلوك الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، وإلى الغطرسة التي يتقاسمها السياسيون والجنرالات، يذكر محادثةً بينه وبين قائد الجيش البريطاني عام 2002، بعد عودته من اجتماعات في واشنطن للتخطيط لغزو العراق الذي شاركت فيه القوات البريطانية. في تلك المحادثة قال القائد البريطاني مايك جاكسون باقتضاب: «سيكون الوصول إلى بغداد أمراً سهلاً، لكنَّهم (الأميركيين) ليست لديهم أدنى فكرة عما سيفعلونه بعد ذلك».
ويختم هاستينغز مقاله بالعِبرة التالية: «سألتُ ذات مرة أحد كبار الضباط في جيش حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي خدم جولات متكررة في أفغانستان، عن لائحة الدروس الشخصية التي يجب ان نأخذها من السنوات العشرين الماضية في مكافحة التطرّف، فردَّ قائلاً: «لم نتطرَّق قطّ إلى أسباب التطرّف، من نقص التعليم ونقص الفرص والشعور بالإقصاء وما إلى ذلك. لقد فقدنا المكانة الأخلاقية العالية بين المسلمين المعتدلين، من خلال سلوكنا في أماكن مثل أبو غريب وغوانتانامو!»- انتهى الاقتباس.
8- لا يحسبنّ أحدٌ أنّ «الحكمة» البريطانية البادية فيما بين تشرشل وهاستنغز تشير إلى أنّ هناك استعماراً خيراً من استعمار. فما حصل مع أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان، حصل مثله وأفظع مع بريطانيا في انسحابها من الهند عام 1947 بعد أن قسّمتها، وفي فلسطين عام 1948 بعد أن سلبت أهلها حقّ تقرير المصير، وأتاحت للإسرائيليين الوقت الكافي للاستعداد والاستيلاء والابتلاع لفلسطين التاريخية.
9- قُصارى القول في مداخلتي هذه، وعطفاً على بدايتها وعلى كلام ونستون تشرتشل، أنَّ الذي جرى حتى الآن في أفغانستان والعراق، تحت شعار مكافحة الإرهاب، لا يثبت الجزء الثاني من مقولة تشرشل بأنَّ الولايات المتحدة، وفي نهاية الأمر، تقوم باعتماد الخيار الصحيح. وقد أزيدُ على ذلك، بأنّ تجربة الحرب على الإرهاب شهدت كثيراً من لحظات «التواطؤ الموضوعي» بين الإرهاب ومكافحيه، أو مَن يدَّعونَ مكافحته.
صحيحٌ أنَّ الولايات المتحدة دفعت الكثير من الأرواح البريئة والخسائر المادية، ولكنَّ العالم خسر أكثر في الأرواح والمادّيات وإضاعة الفرص والتخلُّف عن ركب الحضارة جرَّاءَ إدارة العالم بالقليل القليل من الأخلاق وخلافاً لما يدّعون.
10- يبقى سؤالٌ أخير حول الدرس الذي يمكن، أو ينبغي أن تستخلصه منطقتُنا العربية من الحدث الأفغاني الاستراتيجي- وهو استراتيجيٌّ بالفعل- للحفاظ على مصالحها ونُصرة قضاياها في عالمٍ متغيّر ووسطَ تقلُّبات السياسات الكبرى. ولاسيما بعد كل تلك الخطوب والمحن التي حلّت بدولنا وشعوبنا، وهم الذين دفعوا ولايزالون ولتاريخه أثماناً باهظةً بالمال والجهد والوقت والفرص التنموية الضائعة والمبدّدة. وبالتالي كيف أصبحت بلداننا مكاناً للتجارب والاختبارات التي تجريها العديد من الدول الإقليمية والدولية في مغامراتها ولسياساتها ولأسلحتها الجديدة. وكيف أننا لم نستطع أن نكِّون ما بين بعضنا بعضاً، وحتى الآن، موقفاً وطنياً وقومياً واحداً وموحداً تعبر فيه دولنا عن آمال شعوبنا العربية في الإصلاح وفي التعاون والتضافر وبناء المصالح العربية المشتركة، ولاسيما وأنَّ المناخ الدولي يشهد الآن تململاً وقلقاً لدى معظم الأطراف: فأوروبا ظهَّرت أكثر من أي وقت مضى رغبتَها في «الاكتفاء الاستراتيجي» بمعزلٍ عن القطبيتين الأكبر: الولايات المتحدة والصين؛ وروسيا تسعى بلا مواربة إلى «شراكةٍ مضاربة» مع هذين القطبين.
يحضرني هنا قول بالإنجليزية (Stand up to be Counted)، إذ كيف يمكن للعالم ان يحسب حساباً للعرب ما داموا هم الذين لا يحسبون حساباً لأنفسهم، ولا يقفون متحدين ومتضامنين لكي يراهم العالم، ويجد بالتالي أنه له مصلحة أكيدة في أن يحسب للعرب حساباً. ان العرب إذا قاموا بذلك، فإنه عندها- وعندها فقط- سوف يتمكنون في حينها من التقدم على مسارات استعادة حقوقهم المهدورة والمضيّعة وتعزيز مصالحهم المشتركة. ولقد أثبتت أحداث التاريخ القديم والحديث، أنه طالما استمر العرب بشعوبهم ودولهم على حال من الانقسام والتباعد وعدم تنمية المصالح المشتركة فإنهم لن يستطيعوا استعادة الاحترام الذاتي لأنفسهم، ولا الاحترام لأجيالهم الصاعدة، وبالتالي لن يستطيعوا تحقيق التنمية والرقي والازدهار المنشود، ولا أيضاً المشاركة الفاعلة في حضارة العالم ورقيه وتطوره:
ولأختم مقالتي بقول الشاعر:
«تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراوإذا افترقن تكسرت آحاداً»