بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 آذار 2021 12:00ص بين الأمس واليوم... منصات.. تغريدات.. ونطق «أبو الزوز»

حجم الخط
لأننا بتنا نعيش في عالم تتصدر فيه المنصّات والشاشات ومواقع التواصل كل ما عداها من وسائل أخرى، للتصريح أو التلميح أو نقل الخبر العاجل، في حين، ينهمك السياسيون والمسؤولون في هذا البلد بالردود والردود المضادة على بعضهم البعض، عبر تغريدات وتصريحات ومواقف نعرف كيف تبدأ لكن لا نعرف كيف ومتى تنتهي، وذلك على مدار الساعة، من خلال تأكيد تصريح أو كلام من هنا ونفي من هناك، فيما الناس ينشغلون بأوضاعهم الحياتية والمعيشية الكارثية التي تسبب بها أولئك السياسيون والحكام والمسؤولون الفاسدون من خلال اتباع أساليب ملتوية في ممارساتهم وفجورهم السياسي الذي أودى بلبنان وبشعبه إلى قعر الهاوية لا بل إلى الحضيض من دون أن يرف لهم جفن، ولا همّ لهم إلا تكديس أموالهم وثرواتهم وتهريبها إلى الخارج، في حين يبحث المواطن اللبناني عن قوت يومه بمختلف السبل المتاحة لتأمين لقمة العيش بما تيسر له من إمكانات ضئيلة ولو بشق النفس وتحدي المستحيل.

لن نغوص بحرب الإعلام وتداعياتها وتشعباتها وأخطارها التي هي أشد قساوة وشراسة من غيرها من الحروب الأخرى، عسكرية كانت أم جرثومية أم اقتصادية، مع الأخذ بعين الاعتبار مدى مخاطر وفتك هذه الحروب أيضاً بالناس والمجتمعات والدول، إلا أننا في هذا السياق لا بد من القول ما أشبه اليوم بالأمس، لا بل إن المرحلة الراهنة في لبنان قد تخطت إلى حد كبير ما عاشه هذا البلد إبان الحروب والأحداث العجاف بدءاً من العام 1975 وما تلاه من تطورات وتداعيات انعكست سلباً على وطن الأرز على كل المستويات والصعد.

فمنذ بداية معاناة لبنان مع السياسات الخاطئة وممارسة سياسيّيه الفاسدين، لا يزال المشهد عينه على الواقع اللبناني مع انحدار أخلاقي ووطني يجعل اللبنانيين يطرحون السؤال تلو السؤال بإلحاح إلى متى سيستمر الوضع اللبناني الحالي على ما هو عليه، ومتى وكيف سيصار إلى تغيير المنظومة السياسية برمتها بعدما آلت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه إن كان على صعيد تدهور قيمة الليرة اللبنانية والارتفاع الجنوني من دون سقف محدد لسعر الدولار، ناهيك بالانشغال بمتابعة أخطار انتشار وباء كورونا وتأمين اللقاحات للبنانيين للحد من تفاقم هذا الخطر. أضف إلى ذلك كيفية مواجهة الغلاء الفاحش وارتفاع الأسعار واحتكار التجار للمواد الغذائية والحياتية دون رحمة أو رادع أو وازع أو ضمير.

نكاد ننام ونستفيق يومياً على مهاترات وتشنجات وقصف إعلامي عشوائي متبادل بين هذا وذاك من السياسيين والحكام والمسؤولين، «واللي صارت حجتهم برقبتهم» على حد المثل الشعبي الشائع. فكلما صدرت تغريدة أو تصريح من هنا يأتيك الرد عاجلاً من الطرف السياسي الآخر وهكذا دواليك، ويبقى البلد يتخبط في أزماته الخطيرة مع تمسك كل طرف بموقفه المتعنت من دون التنازل قيد أنملة لما فيه مصلحة البلد وأهله، ومن دون تسامح أحدهم أو التنازل للآخر.

وبما أن التاريخ يعيد نفسه في هذا البلد، تعود بي الذاكرة إلى مشهد يشبه إلى حد كبير ما يواجه لبنان حالياً: ففي بداية الثمانينيات كنت قد اخترت وبدأت العمل في مهنة المتاعب أي الصحافة، وكان دوام عملي المسائي في وزارة الإعلام يمتد من الرابعة حتى العاشرة ليلاً، وكنت حينها أعمل فترة قبل الظهر في أحد المصارف، وأتابع أيضاً دراستي الجامعية في كلية الإعلام والتوثيق بالجامعة اللبنانية، وذات يوم كنت أجلس إلى المكتب المخصص لي في غرفة التحرير وحيداً، خطر على بالي أن أتصل بوزير الدفاع الوطني آنذاك الراحل جوزيف سكاف – رحمه الله – الذي كانت تربطه صداقة جد وطيدة مع المرحوم والدي علي عمار الذي كان يشغل آنذاك مركزاً إدارياً رفيعاً في محافظة البقاع التي هي كما هو معروف «عرين الوزير سكاف»، وكان الوزير سكاف بحكم هذه العلاقة المتينة يتردد بشكل مستمر إلى منزلنا الصيفي في بلدة المريجات البقاعية، وهناك تعرفت عليه عن قرب، وبعدما رفعت سماعة الهاتف واتصلت به رحب بي بعدما عرّفته بنفسي بأني «فلان ابن فلان» وكان آنذاك هناك خلاف كبير، كما هي الحال في أيامنا هذه، بين الأحزاب والسياسيين حول دور الجيش اللبناني وإعطائه الضوء الأخضر أو عدمه من النزول إلى الأسواق التجارية في البلد، لوضع حد للفوضى والسرقات التي كانت قد بدأت في حينه وما تبعها من اعتداءات على المحال التجارية والأملاك الخاصة والعامة في البلد ولمنع إقفال الطرقات بين المناطق على المواطنين. وقد انقسم الموقف السياسي وقتها بشراسة حول هذا الأمر. وفي اتصالي هذا طلبت من الوزير سكاف موقفاً وتصريحاً يدلي به حول هذا الموضوع كونه وزيراً للدفاع. فقال لي بالحرف: سأعطيك ما تريد بشكل واضح من معلومات، مشترطاً علي عدم الإتيان بذكر اسمه على الإطلاق، وإنما أن تنسب هذه المعلومات لمصادر ومراجع مختصة معنية بهذا الشأن، فوعدته خيراً، وبدأت أكتب ما يقوله وكان كلامه آنذاك مهماً جداً، واضعاً النقاط على الحروف للجدل القائم بشأن إنزال الجيش ومدى فعالية وجدوى ذلك، وألح علي تكراراً بعدم ذكر اسمه. وبعد إقفال الخط معه، حيث كانت تلك تجربتي الأولى في عملي المهني، أغراني كلام الوزير فنقلته عبر الوكالة الوطنية الرسمية عن لسانه حرفياً، من دون أن أدري ماذا أقترف وما هي أبعاد ما أقدم عليه. وفي اليوم التالي «قامت الدنيا ولم تقعد» ونشرت الصحف كلام الوزير سكاف كمانشيت على صدر صفحاتها الأولى، فيما كنت أنا «يا غافل إلك الله»، وأذكر أن صحيفة «العمل» نشرت في حينه كاريكاتوراً للوزير سكاف وألبسته «طاسة الجيش اللبناني» وفي يده بندقية وعلقت على ذلك بعبارة «نطق أبو الزوز».

وظهر ذاك اليوم كنت في عملي في المصرف، وردني اتصال هاتفي من مدير عام وزارة الإعلام آنذاك رضوان مولوي (الذي لم أكن قد تعرفت عليه بعد) وقال لي: مرحباً، هل أنت فلان، ثم عرفني عن نفسه، هنا شعرت بشيء من القلق والوجل، وقال لي: يا ابني هناك مكافأة مالية لك لأنك حققت سبقاً صحفياً للوكالة، لذلك عليك الحضور إلى مكتبي، واستوضح مني عما إذا كان الوزير سكاف قد أدلى لي بتصريح وطلب مني نشره، فأجبته: نعم هذا ما حصل. وأنا في طريقي إلى عملي في الوزارة، أدركت أنه قد يكون في الأمر خطة للإيقاع بي «وفهمت اللعبة على الطاير» ولدى وصولي إلى المكتب، اتصلت بالوزير سكاف مجدداً قبل أن أدخل إلى مكتب الأستاذ مولوي، ولم يكد الوزير سكاف يعرف أنني على الخط حتى بدأ يعاتبني بشدة، قائلاً: لقد تسببت لي بقصة طويلة عريضة مع السياسيين في البلد كما مع المؤسسة العسكرية ووسائل الإعلام، وبعدما شرحت له بإسهاب ما قاله لي الأستاذ مولوي وعن إمكانية تعرضي لمشكلة كبيرة في عملي نتيجة ما أقدمت عليه، أجابني: «طيب، ما إسمك إلا ابن أحب الناس إلى قلبي» واعداً بحل هذه المشكلة من خلال التأكية بأنه هو الذي أدلى بالتصريح شخصياً.

شكرته ودخلت مسرعاً إلى مكتب الأستاذ مولوي الذي استقبلني بطريقة فيها الكثير من التساؤل والعتب، مكرراً علي السؤال عما إذا كان الوزير سكاف قد طلب مني نشر التصريح عن لسانه، ولم أكد أجيب عن السؤال حتى رن جرس الهاتف، وإذ بالأستاذ مولوي يقول للمتصل، أهلاً معالي الوزير، نعم انه موجود عندي، وبعدها بثوان، قال المولوي، يا معالي الوزير أنت الذي اتصلت وقلت إنك لم تدل بمثل هذا التصريح، وبعد أخذ ورد بينهما قال: إذاً هو لم يُخطئ، عندها أدركت فعلاً أن الوزير سكاف أقنع الرجل ببراءتي من الذنب الذي اقترفته، حينها قال لي الأستاذ مولوي، أنا كنت على يقين أنك لم تخطئ، لذلك سأرصد لك مكافأة مالية!! فخرجت من مكتبه وأكاد لا أصدق ما حدث وما سمعته، لكن أدركت مدى كبر وتسامح وشهامة الوزير سكاف، وأحاول الآن أن أقارن بينه وبين معظم سياسيي هذا البلد الذين هم في واد والناس في واد آخر «وراسهم مش حاملهم». لذلك لا أستطيع إلا أن أقول رحم الله الوزير جوزيف سكاف ورحم الله من نشر له كاريكاتور «نطق أبو الزوز». أما تلك الأيام فألف رحمة ورحمة عليها. فما قاله الوزير سكاف للأستاذ مولوي في حينه أنقذ الموقف بالنسبة لي ولو كان على حسابه كوزير للدفاع.