بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 حزيران 2022 12:02ص ثروة لبنان النفطية ضحية غياب استراتيجية دفاعية وطنية

حجم الخط
لطالما تناولَ السياسيون اللبنانيون موضوع الاستراتيجيَّةِ الدِّفاعِيَّةِ من منظار سياسي ضيقٍ تحكُمُهُ المُناكفات السِّياسيَّة وتموضعات المكوناتِ السِّياسِيَّة الأساسيَّة بين مِحورين، الأول وغلبَ على توصيفه في الآونةِ الأخيرة بمحور الفريق السِّيادي، ويُنادي بضرورةِ إقرار استراتيجيَّة دفاعيَّة باعتبارها تكرِّسُ حَصريَّةِ السِّلاحِ بأجهِزَة الدَّولة العَسكريَّة والأمنيَّة أو على أقل تقدير بإخضاعِ سِلاحِ المُقاومَةِ لقرار السُّلطَةِ السِّياسِيَّة، ومِحورٌ آخر ذاع توصيفُه بالفريق الممانع، ويتوجَّسُ أنصارُ هذا الفريقِ من طرحِ الفريق الأول ويرون في ذلك مُحاولةً لتدجين المقاومة تمهيدا للقضاء عليها، ولتعرية لبنان من قوة عَسكريَّة غير رَسميَّةٍ استطاعت بإمكانيَّاتها العسكريَّةِ وايديولوجيتها القتاليَّة إرساءَ قاعِدةِ توازًنِ الرُّعبِ ما بين لبنان والعدو الإسرائيلي، وبالتالي منع العدو من التَّطاولِ على السِّيادَةِ اللبنانيَّة، أو التعرُّضِ لثرواتِ لبنان الطبيعيَّة أو التعرض له بأعمال إرهابيَّة.
أدَّى التَّعنُّت في المواقفِ إلى تعميقِ حالةِ الانقِسام، التي تسبَّبت بتعطيلِ المؤسَّساتِ الدستوريَّةِ لمرَّاتٍ عدَّةٍ ولفتراتٍ زمنيَّةٍ طويلةٍ حينا ومتوسِّطةِ حينا آخر، ومنها ما يتعارضُ مع مبدأ دستوريٍّ عريقٍ ضمان استمرار سيرِ العَملِ في المرافق العامَّة، من خلال الالتزام بروحية النُّصوصِ النافذة. والأخطرُ من ذلك أن تلك المناكفاتِ والمُماحكاتِ السياسيَّةِ أوصلت البلد إلى مأزقِ صعبٍ نتيجةَ حالةِ الانهِيار التي طالت مُختلفَ القِطاعاتِ الاقتصاديَّةِ والماليَّة والنقديَّةِ والمَصرفيَّةِ والثقافيَّة... الخ. وتسبَّبت بأزَماتٍ حادَّةٍ شائكَةٍ ومُتداخِلة.
يعزو أنصارُ الفريق الأول حالةَ الانهيار التي وَصلنا إليها والأزماتِ التي نتخبَّطُ بها إلى المنهجيَّةِ التعطيليَّةِ التي اعتمدها الفريق الثاني لتحقيق مكاسِب فئويَّةٍ سِياسِيَّة وغير سياسيَّة، هذا بالإضافةِ إلى خياراتِهِ الإقليميَّةِ التي جَعلت لبنان شبه مُعاقبا دوليَّا ومنسيَّا عربيَّا، أما الفريق الثاني، فيعزو ما وصلنا إليه إلى السِّياساتِ الإقتصاديَّة غير المدروسَة، والتي غلَّبَت كفّة القطاعاتِ الاقتصاديَّةِ الريعيَّةِ على القطاعاتِ المنتجَة، بالإضافةِ الى تفشي ظاهِرةِ الفَسادِ في الدَّولة وعلى مُختلفِ المُستويات. أما الحقيقة التي يتجاهلها الفريقان، ويتناقلُها عامَّة الناس فتقولُ بأن الأداء اللامسؤول لمن توالوا على السُّلطةِ هو المُسبِّب الأساس لحالةِ الانهيارِ التي نشهدها والأزماتِ الرَّاهنةِ، ولكل ما يعاني منه الشعب اللبناني من مآسٍ. ولكن ثمَّة سوء أداءٍ أخطر من النوايا الآثمة التي تتحكم بمُعظَمِ المسؤولين، والذي يتمثَّلً في المُقارباتِ المًعتمدة أو التي اعتُمدت من قبلِ غالبيَّة المسؤولين والقائمةِ على التَّسرُّعِ في تبنّي خياراتٍ غير مدروسة، وقراراتٍ مُرتجلةٍ غير مَحسوبة النتائج. وخير مثال على ذلك مُقاربَةُ السلطة اللبنانيَّةِ لمسألةِ النِّزاع على الحدودِ البحريَّةِ مع الكيانِ الإسرائيلي المغالي بصلفه وتعجرُفه.
لا يخفى على أحد أن لبنان كدولة مُربكٌ حِيالَ هذه المَسألةِ، نتيجةً التَّخبط الحاصلِ في مواقفهِ الرَّسميَّةِ غيرِ الثابتةِ والمُتناقِضَةِ مع بعضِها البعض. ولسوءِ إدارتِهِ لعَمليَّةِ التَّفاوضِ والتي كان ينبغي أن يُحضَّرَ لها جيِّدا بالتَّنسيقِ مع مُختلفِ الجهاتِ الوَطنيَّةِ والدَّوليَّةِ المَعنيَّة، كما في تسميَةِ الوفدِ المُفاوضِ ممن يُتقنون مهارة التفاوض كعلم وفن، بحيث يمتنعون عن كشفِ معظمِ ما لديهم من عناصرَ تفاوضيَّة، وبالوقت عينه يسعون لاستكشاف ما لدى العدو من مناورات وأوراق تفاوضية، كما يناورون بمطالبهم على نحو يرفعون سقفِها بدايةً وصولا إلى تحقيقِ أفضلِ الخياراتِ أي على خلافِ ما حَصلَ ويَحصلُ.
لبنانُ لا يُحسدُ على موقِفِهِ الملتبسِ حيالَ هذه المسألةِ الوطنيَّةِ الكبرى، والتي يتوقف عليها مصيرُ حيّز كبير من ثروتهِ النفطيَّةِ، كما لكونها تتعلق مباشرة بسيادَتِه على مياهه الاقليمية، ومنطقته الاقتصاديَّة الخالصة، فكيف الحال إذا والكل يعلم اننا نتعاملُ مع عدوٍّ لا يُعيرُ اهتماما لكل المواثيق الدَّوليَّة، وغير موقّعٍ على مُعظمِ الاتفاقياتِ الدَّولية الناظمة لأسس ترسيم الحدودِ البريَّة والبحريَّة بين الدُّول، ويضافُ إلى ذلك العلم بأن الرَّاعي للتفاوضِ مشكوكٌ بحياده بل مَشبوه بانحيازه العلني إلى جانبِ ذاك الكيان المدلل لديه، بل هو الداعمِ له حتى في اعتداءاته وانتهاكاته غير المُبرَّرة على لبنان وغير لبنان.
لبنانُ اليوم مُهدَّدٌ بثروتِهِ النَّفطيَّةِ وعُرضةٌ للدُّخولِ بآتون حَربٍ ضروسٍ غيرِ مُتهيِّئ لخوضِها، لأن العدو هو من يتحكَّمُ باختيار أوانها بعد أن أنهى تدريباته وتمارينه عليها، ولم يبقَ سوى إعلانُه لساعَة الصِّفر لاندلاعِ شرارتها. وإن وَقعَت قد لا يُجمع المسؤولون اللبنانيونَ على صوابيةِ خوضِها، والأخطر من ذلك ان من بيدهم الحلّ والربط أضحوا أسرى لمواقفَ شَعبويَّةِ تَخوينيَّةٍ لا يقوون على مُخالفتها تجنُّبا لنعتهم بالمُتخاذلينِ أو الخونة المتواطئين. 
إن سببَ كل هذا الإرباك والتخبُّطِ بالمواقفِ يُعزى إلى أمرٍ واحدٍ: هو غياب استراتيجيَّة دِّفاعيَّة محكمة، تترجَمةُ السياسَة الدِّفاعِيّةِ للدولة التي تحدد السلطة السياسيَّةُ خطوطها العريضة، والتي ترى فيها أفصل المقاربات للدِّفاعُ عن إقليمها بشقيهِ البرِّي والبحري، وحمايَةِ مَصالِحِها ومنع التَّعرُّض لأمنها القومي.
كم نحن بحاجة اليومَ لاستراتيَّجيَّة دِّفاعيَّة يسترسل مسؤولينا بها، ولكن للأسف هذه الوثيقة التي لم يتَّفقَ المسؤولون اللبنانيون على إقرارِها، ولا حتى على مُجرَّدِ التفكيرِ بالتَّباحثِ بشأنها.
إن الاستراتيجيَّة الدِّفاعيَّةَ هي أولى الأولوياتِ بالنِّسبةِ للدُّول، باعتِبارِها المُرتكزُ الأساس الذي يَستندُ إليه المسؤولون في تقدير الموقفِ إبَّان الأزماتِ والمسائل الهامَّةِ الطارئةِ التي تهمُّ الدَّولة، والتي لا تقتصرُ على الأمور العَسكريَّة بل تشملُ مًختلفَ المَسائلِ ذاتِ البُعد القومي أي الوطني، سواء كانت سياسيَّةً سياديَّةً، اقتصاديَّة ماليَّة، اجتماعيَّة أو ثقافيَّة، وسيّان تعلّق الأمر بثرواتٍ على سطحِ الأرضِ أم في باطنها، أو في المياه الإقليميَّة أم في الجُرفِ القاري أو في المنطقةِ الاقتصاديَّة الخالِصة.
كان من المفترضِ أن تُوفرَ الاستراتيجيَّةُ الدِّفاعيَّةُ في حال وجودها الأجوبةَ الشافيةَ للكثير من الأسئلة المطروحَة والتي قد تُطرحُ مُستقبلا، ولجنَّبتنا كل هذا الإرباكِ، ولكان من المفترضِ أن تكون المُستند الأساسِ الذي يُستندُ إليه في تقدير الموقف، وعند اتَّخاذ القرارات المناسبَة وعلى ضوء المُستجدات. ذلك ان الاستراتيجية الدفاعيَّةُ كغيرها من الاستراتيجياتِ تُعدُّ وفق دراسات وتحاليل مُعمَّقة، كما تتضمن سيناريوهاتٍ مُعدَّة مُسبقا تزيد من هامش المناورة، وتُوزَّعُ على أساسها المسؤولياتِ والمهام لمختلفِ الجهاتِ المعنيَّة، وفق الظروفِ الدولية والداخلية السائدة، والامكاناتِ المتوفرة، بعد تحديد مواضع الضَّعفِ وعناصِرِ القوَّةِ والفُرصِ المتاحَة، من دون إهمال المخاطر والتهديدات المُحتملة.
ها نحن اليوم عُرضة لدفعِ أثمان باهظة، لتلكؤ مسؤولينا وتخاذلهم وتناحُرهم غير المُبرر، الأمرُ الذي حال دون إقرارنا لاستراتيجيَّةِ دفاعيَّة مناسبة، فقط لانعدامِ الثقةِ المُتبادلةِ بين بعضهم البعض، ولكونهم نصّبوا أنفسهم ولاة على الوطن وأوصياءَ على المواطنين.
وأخلص للقول ان إعداد وتبنّي استراتيجية دفاعيَّة على المُستوى الوطني أمرا ليس من قبيلِ التَّرفِ أو الكماليَّاتِ التي يمكن الاستغناء عنها، بل واجب وطنيّ على كُلِّ مسؤول من حيثُ موقِعِه. 
الاستراتيجيَّةُ الدفاعيَّةُ هي وثيقةٌ وطنيَّةٌ جامعةٌ تلي بأهميتها الدستور، من شأن الأخذِ بها توحيد الصُّفوفِ وترشيدَ الجُهود وتسخيرِ كل الامكانياتِ المُتاحةِ وتكامل الأدوار في سبيل ِالزَّودِ عن الوَطن ومَصالِحِه وصونِ سيادته.
أما آن للمسؤولين أن يعوا أن الإرباك الذي يشهده لبنان اليوم، حيال مسألة استخراج الغاز من حقل كاريش، ما هو إلا أحد تبعات تخاذلِهم وتقاعسهم واستنكافهم عن إقرار استراتيجيَّة دفاعيَّةٍ وطنيَّة تُسخَّرُ فيها إمكانياتِ الجيشِ والمقاومَةِ لخدمَةِ المصلحة الوطنيَّةِ الجامِعَة.