بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 أيلول 2022 12:00ص ثورة يوليو.. ماذا بقي منها؟

حجم الخط
عن ثورة يوليو أحدّثكم.. عن ثورة عبد الناصر.. لا بوصفي شاهداً على بدايتها أو أوجّ صعودها التحرّري في العالم بل على نهايتها. فكل نهاية على عكس البداية تبقى مفتوحةً أمام النظر والاعتبار؛ لا يهم إن حضرنا فيها أم لم نحضر. وفي ذلك مقتضى الآيات القرآنية الحكيمة التي تدعونا للسير في الأرض والنظر في عاقبة من كانوا قبلنا. وقد يتبادر على الفور سؤالٌ إلى ذهن قارئي: عن أيّ نهاية تحديداً أتكلم؟ لأبدّد سريعاً سوء النوايا الممكنة. ليست هزيمةُ الأيام الستة برغم بشاعتها وفداحة نتائجها نهاية الثورة المصرية الحديثة. ولا هي موت عبد الناصر المفاجئ. وكذلك ليست هي كامب ديفيد أو «معاهدات السلام» المتواصلة مع العدو. أين هي النهاية إذاً؟ إنّها في ما يجري اليوم! يمكن لنهاية عادية أن تتنحّى جانباً بكل سهولة ومن غير جهد يُذكر. لكن ما الحلّ مع نهاية لا تريد أن تنتهي؟ نهاية يوليو ٥٢ هي من هذا النوع. لقد اعتقدت معظم الأنظمة العربية أنّ عليها واجبَ «تجاوز آثار العدوان» الإسرائيلي في ٦٧ وإبعاد هذا الملف عن الساحة السياسية تماماً. لم يعد البكاء على خسارة الأرض وتبادل الاتهامات في ما بينها مُجدياً لها ولشعوبها. عبد الناصر كان واضحاً وجريئاً في تحمّل المسؤوليّة كاملة. نعم هو المسؤول الأول لكن ليس الأخير عن هذه الكارثة العسكرية. لكن ما لم تدركه الأنظمة هو أنّ الهزيمة انتهت منذ اليوم الأول لإعلانها في خطاب التّنحي الشهير. حتى وإن خُفّفت بنكسة. فأمام المصائب الكبرى قد لا تُسمَّى الأشياء بأسمائها الحقيقية. إذ الإرادة والعزيمة تحجبان الألم مهما كان عظيماً. ولهذا مكانة معروفة ومحمودة في لغة العرب وكلامها. هُزمت الهزيمة حتماً. وكذلك انهزم السلام حين قرّر أصحابه وضع عربة المفاوضات أمام حصان الحقوق. التطبيع الجاري اليوم ليس من السلام في شيء. هو في شأن آخر بعضه معلوم وبعضه لا يزال مجهولًا. في كل تجربة إنسانيّة لا تشبه دروس البدايات دروس النهايات. السنوات الثلاث الأخيرة في حياة عبد الناصر كانت الأكثر نضوجاً بلا أي شك. وهي الدروس التي لاحت له جليّة على خطوط النّار ولن ننتهي نحن من حفظها. يمكن لأي نظام عربي مهما كان تقدّميّا أن يهُزم أمام العدو المتربّص به إما في معارك غير محسوبة جيدا أو بسبب اختلالات داخلية وفجوات كبيرة تبتلع سنوات العمل والنضال في لحظة واحدة. فالكارثة تولد إبتداءً في رحم الداخل قبل أن يستولدها العدو بعملية قيصرية من الخارج. لا توجد ثورة تستمر من دون عملية تطهير مستمرة لمراكز القوى المضادة فيها. ليس الجيش أداة حماية من الداخل بل أداة ردع للخارج. استنزاف العدو والمحتلّ هي المعركة الرابحة دائماً بالرغم من كلفتها العالية. أن توقع الألم نفسه على عدوك وترجو من الله نصراً لا يرجوه. المقاومة الشعبية المنتظمة في وجه العدو ليست بديلاً عن الجيوش ولا بقاءها انتقاص لها. المقاومة وجدت لتبقى. وقد صار لها في أعقاب حزيران ٦٧ بُعْدٌ سياسي وعسكري لا يمكن اختزاله. حتى الجيوش الحالية التي ليس بين تشكيلاتها وحدات مقاومة شبه مستقلّة لن تقدر على الصمود في أي حرب مقبلة. القضايا العربية لا تنفك عن القضية الفلسطينية الأم، ولا قيمة لأي نظرية في الأمن القومي العربي لا تكون مداميكها قائمة في القدس. ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة. وهذا يعني أن التحرير ليس رهنا بنظام سياسي محدد سيقع عليه حمل المعركة بل هو مسؤولية الشعوب العربية الذي بات لها كل الحق في أن تتقدم الصفوف بعدما رفضت الهزيمة من اليوم الأول وحملت سلاحها في اليوم الثاني. نعم وجد سياسيون ومثقفون وفنانون ودعاة كاذبون روّجوا للهزيمة وأمعنوا في رفعها إلى مصاف الهزائم الحضارية وفي تسفيل الذات العربية بوصفها ذاتا مهزومة إلى الأبد أمام ذات غربية قدرها أن تظل متفوقة ومنتصرة. لكن الشعوب العربية لم تستمع إلى هؤلاء ولم تتعلم من كتبهم شيئا ولم تحسب لهم حسابا بل طرحتهم تماما من معادلة القوة التي صارت بيدها اليوم في فلسطين ولبنان وسوريا وإيران.
نهاية ثورة يوليو هي بداية عصر المقاومة والحروب الشعبية التي لن يستطيع أحد أن يوقفها أو يفرض عليها الاستسلام أو يوهمها بالتراجع الحضاري أو التخلف العلمي والتكنولوجي. صحيح أن الشعوب العربية ليس لديها امكانات علمية اليوم لاكتشاف الفضاء الخارجي أو سبر أغوار المجرات القريبة والبعيدة لكن هي تملك إيماناً عظيماً برب هذا الكون وخالقه وصار لديها الامكانات اللازمة لتبقى أقدامها صلبة على الأرض وفي قلب التاريخ المحتدمة معاركه بين دعاة الخير للبشرية أجمع ودعاة الشر المتربصين بها.