بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تموز 2021 12:01ص جمال عبد الناصر رجل في أمّة وأمّة في رجل (2/4)

حجم الخط
جمال عبد الناصر الذي كان همّه السد العالي المنوي إقامته بعدما بيّنت الدراسات أهميته في رفع الاقتصاد المصري الى الأمام بقطاعاتها الزراعية وقطاعاتها الصناعية، فمنع فيضان النيل الموسمي، والانتهاء من الأضرار الجسيمة التي يلحقها بالمدن والقرى المشاطئة لمجراه، واستصلاح مئات آلاف الفدادين المصحرة، وتعميم نظام الري، وكهربة مصر بكافة مناطقها ومدنها وقراها، واستحداث قطاعات جديدة صناعية كانت غير متوقعة بسبب افتقاد الكهرباء، حيث من أجل كل ذلك كان السعي المتواصل دولياً وعالمياً للتمويل وتأمينه وخاصة من الدول العربية الغنية والبنك الدولي، التي انتهت كلها الى لا شيء خاصة عندما أعلن البنك الدولي انسحابه من تمويل السد، إلا ان جمال عبد الناصر الذي أدرك واعياً ان ضغط الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول الغرب هو الذي قاد البنك الدولي الى الانسحاب من التمويل، كان الرد التاريخي بقوله: إذا كان الغرب والبنك الدولي قد أقلعوا وانسحبوا من تمويل بناء السد، فنحن في مصر سنجد الوسيلة التي تمكننا من إنشاء السد العالي، وكانت مفاجأته للبنك الدولي وللدول الغربية في خطاب الاسكندرية في 26 يوليو/ تموز 1956: تأميم الشركة العالمية لقناة السويس وإعلانها شركة مساهمة مصرية... لقد كان تأميم قناة السويس واستلام إدارتها فور إعلان جمال عبد الناصر لذلك في المهرجان حدثاً عالمياً، انتفض المحتل بإدارة القناص فكانت المؤتمرات، وكانت المفاوضات، وكانت الضغوطات، التي انتهت كلها بإعلان الحرب على مصر، والتوجه لاحتلال القناة من دول العدوان الثلاثي: بريطانيا - فرنسا - إسرائيل في 29/9/1956، وكانت مصر بالمرصاد، قيادة وحكومة وجيشاً وشعباً، وإعلان جمال عبد الناصر من فوق منبر الجامع الأزهر: «سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل دفاعاً عن شعب مصر وحفاظاً على حقنا في القناة ولن نستسلم». وانتهى العدوان بالخذلان وانتصرت مصر بقيادة جمال عبد الناصر.

وجمال عبد الناصر بالمكانة التي احتلتها مصر في الميدان العربي والعالمي بعد كسر احتكار السلاح، وبعد تأميم قناة السويس، وانتصارها في حرب العدوان الثلاثي، وانهزام دوله الثلاث، جعلت منه قائداً مصرياً وعربياً ودولياً عالمياً دفعته الى التطلع لبناء محور دولي (محور دول الحياد الإيجابي) بمشاركة: جوزيب بروز تيتو رئيس يوغوسلافيا الاتحادية، وجواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند، وأحمد سيكوتوري رئيس أندونيسيا والصين الشعبية ووزير خارجيتها تشو أن لاي، وكان مؤتمر باندونغ 1956 في اندونيسيا تلك المناسبة العالمية التي أخرجت الى الوجود محوراً دولياً جديداً يقف بين المعسكريين التقليديين العالميين (المعسكر الشرقي الشيوعي والمعسكر الغربي الرأسمالي الاستعماري الامبريالي) متقلّداً قيادة العالم الثالث بقاراته الثلاث آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ومدافعاً عن أمم هذا العالم وشعوبه وبحقه في الحرية والاستقلال وبناء مجتمعاته الوطنية المستقلة بكل كرامة سياسية واجتماعية، وكانت تبعاً لذلك نشوء حركات التحرير بالعنف الثوري تتوالد وتتواصل فيما بينها، فكانت هذه الثورات ظاهرة عالمية أثبتت شرعيتها ووطنيتها واستقلالها وخاصة: حركة تحرير فيتنام وتوحيدها وطرد الاحتلال الأميركي - حركة تحرير الجزائر واستقلالها وطرد الاستعمار الفرنسي - حركة تحرير كوبا وطرد النظام العميل فيها للمدعو الجنرال باتيستا وطرد الاستعمار الأميركي منها.

وجمال عبد الناصر، هو الرئيس الأول للجمهورية العربية المتحدة التي قامت في 1/2/1958 بوحدة مصر وسوريا، هذه الجمهورية التي كانت أول ردة فعل عربية على واقع التجزئة العربية الذي فرضه الاستعمار الغربي على اختلاف دوله الأوروبية: الانكليزية والفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية، هذا بالإضافة الى استلاب بعض المناطق العربية وإلحاقها بالدول المجاورة: فلواء الاسكندرون ألحقته دولة الانتداب الفرنسي على سوريا بتركيا 1939، وعربستان العراقية ألحقت بإيران 1935 ومدينتي سبتة ومليلية المغربيتين لا زالتا تحت السيادة الاسبانية حتى الآن، وأما الانتداب الدولي الذي أقرّته وفرضته عصبة الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وعهدت به الى الدول المنتصرة، فقد بدا بكل وضوح انه نظام استعماري جعل فرنسا المنتدبة على سوريا تلجأ الى تقسيم سوريا الى خمس دول وهي: دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين على الساحل السوري المطل على البحر الأبيض المتوسط ودولة لبنان الكبير (1 أيلول 1920) ودولة جبل الدروز الى جانب سلب لواء الاسكندرون وإعطائه لتركيا، أما بريطانيا المنتدبة على فلسطين والعراق فقد قدمتها دولة الانتداب الانكليزية هدية بوعد بلفور لإقامة وطن قومي يهودي صهيوني، وكل ذلك جاء مخالفاً لمحادثات شريف مكة والحجاز - ومكماهون الانكليزي بتمكين العرب من بناء وحدتهم العربية في حال أعلن شريف مكة الحرب على الاستعمار التركي، ولكن الذي حدث كان تطبيق اتفاقية سايكس-بيكو وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، تلك المعاهدة السرية على شريف مكة التي أعلنت للعالم من موسكو بعد انتصار الثورة البلشفية فيها، والتي انطوت أيضاً على إنشاء المملكة العربية السعودية في عام 1926 بتوحيد منطقتي نجد والحجاز، وإنشاء إمارة شرق الأردن باقتطاعها من سوريا والحجاز، وإنشاء مملكة العراق التي أعطيت الأولى للأمير عبدالله ابن شريف مكة والثانية للملك فيصل بعدما طرد من سوريا الى العراق بمعركة ميسلون التي خاضها الجيش الفرنسي ضد الجيش السوري واستشهاد وزير الدفاع السوري يوسف العظمة.

لقد كانت الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر ولم يمضِ على قيامها ست سنوات، وبعثه للحركة القومية العربية الواعية لوجود الأمة العربية المتكونة بنتيجة عوامل تاريخية في الزمن المديد، وتأييدها العارم من جماهير الأمة العربية فوق الأرض التاريخية بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي وتنظيماته الحزبية والشعبية المتطلعة نحو الوحدة، وبعدما رأت في شخصيته وآرائه وكتاباته الشخصية القيادة التي توسمت فيها الخير، وبعد هذه السنوات الست من الكفاح المتواصل - المشار إليه أعلاه - ان وحدة مصر وسوريا وحتميتها بهذا الزمن الواعد وبهذه القيادة التاريخية هو الموقف المستجيب للتاريخ وإرادة هذه الأمة وهو الذي يقول:

«لقد كانت دولة كبرى في هذا الشرق، ليست دخيلة فيه ولا غاصبة ليست عادية عليه ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، توحّد ولا تفرّق، تسالم ولا تفرّط، تشدّ أزر الأخ والصديق، تردّ كيد العدو لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفّر الرخاء بقدر ما تتحمّل وتطيق».

 

* الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب