بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 حزيران 2020 12:00ص حبٌّ... وحبّ!

حجم الخط
حدّثني أحد الأصدقاء الثٍّقات، قال:

عدتُ ذات يوم إلى بيروت من باريس حيث أقطن منذ أكثر من 26 سنة.

في مطار شارل دُه غول، قرأ الموظف الجمركي على جواز سفري: مكان الولادة: بيروت، فسألني: كيف الوضع في لبنان؟ أجبته: لا بأس، وكل ما نتمنّاه أن يبقى، أقلّه، على حاله!

- منذ متى وأنت تعيش في فرنسا؟

- أنهيت للتو سنتي السادسة والعشرين.

- ومتى كانت المرة الأخيرة التي عدت فيها إلى لبنان؟

- منذ شهر واحد، لكي أمضي فرصة الميلاد بين أسرتي اللبنانية.

حدّق الموظف في وجهي وهو يبتسم وقال:

- أيّا من البلدين تحب أكثر، لبنان أم فرنسا؟

- الفرق الذي أراه بين لبنان وفرنسا، هو تماماً كالفرق بين أمي وزوجتي. زوجتي، اخترتها بنفسي، وافتُنيت بسحر جمالها، فاحببتها، ولكنها لا يسعها أن تنسيني أمي في أي حال من الأحوال.

لم اخترْ أمي، ولكنني أعلم انني انتمي إليها في عمق أعماقي، ولا ارتاح إلا بين ذراعيها ولا أبكي إلا على كتفها.

أغلق الموظف جواز سفري وحدّق في وجهي بدهشة ثم قال:

- كثيراً ما يُقال ان الحياة في لبنان جد صعبة، فأنّى لك أن تحبّ هذا البلد إلى هذا الحدّ؟

- هل تعني بكلامك «أمي»؟

ابتسم الموظف وقال: «لنفترض ذلك».

- قد تكون أمي فقيرة محتاجة، وليس لديها أن تدفع به علاجي وأتعاب الطبيب، ولكن حنان حضنها عندما تضمّني إليها ودفء قلبها عندما أجد نفسي بين ذراعيها، يكفيان لشفائي.

- صف لي لبنان.

- ليس له جمال حسناء شقراء، ولكن رؤية محيّاه تطمئن خاطري، ليس له عينان زرقاوان، بيد أن رؤيته يُشيع في نفسي الأمان. ثيابه بلا زخرف، ولكنها تحمل في طياتها الرحمة والطيبة.

لا يزيّن نفسه بالذهب والفضة، ولكنه يرتدي قلادة حول عنقه. من سنابل القمح التي يطعمها كل جائع. نهبَه اللصوص وقطّاع الطرق وظلت البسمة مرتسمة على وجهه.

أعاد الموظف إليّ جواز سفري قائلاً:

- أنني أعرف لبنان من خلال شاشات التلفزة ولكنني لا أجد فيه شيئاً مما وصفته.

- شاهدت يا صاح، لبنان الخرائط الجغرافية. أما أنا، فأتحدّث عن لبنان المخفيّ في قرارة نفسي.

- أتمنى أن تتجلّى أمانتك فرنسا كتلك التي للبنان. أقصد أن تتجلّى أمانتك لزوجتك كأمانتك لأمك.

- بيني وبين فرنسا عقد يلزم عليّ الأمانة، ولست ممن لا يخون بالعقود والوعود. وفي ودّي لو تدرك أنت أن تلك الأمانة علّمتْنيها أمي! حضن الأم أجمل من المدارس واسماها. وهي علمتني الفضيلة التي هي ابنة الرحمة والرحمة روح الله!


أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه