يعيش مجتمعنا السياسي اللبناني في هذه المرحلة من مسارنا التاريخي العقيم إنهياراً وصل إلى حد لم يُعُد بالإمكان إيقاف إنحداره إنْ لم تتدارك القيادت الروحية والعلمانية خطورة ما يحصل وإنْ لم تُبلور خطة إنقاذية لإعادة الأمور إلى نصابها. بعد صدور القرار 1559 جاءت مرحلة إعادة بناء الدولة ولكن للأسف هذه القوى التي طافت على شاطئ تلك المرحلة ما كانتْ إلاّ بائعة أوهام وأشبه بـ«سكران»، مع سرديات بطولية وهمية وأحلام همايونية و«ذكذكات» لا قيمة لها... لكن فشل هذا النموذج بعد تلك المرحلة أدّى إلى ظاهرة تسليم الدولة للمحور الإيراني طوعاً من قبل جماعة سياسية كل همّها أن تكون جالسة على كرسي كجلوس الصنم في واجهة محل يبغي الربح لا السمعة الحسنة وعفواً من الذين يقرأون هذا المقال والذين ينشرونه فهذه هي واقعة الحال.
بعد هذا النموذج المسخ وشبه الدولة وإندثار القوانين وهجمة الدويلة بكل مكوناتها نجد اليوم أنفسنا في لحظة «دولة منتهكة السيادة منهوكة مفتعل فيها» أي إنّ الذين يُمارسون السياسة يُمارسونها بأصول العهر، حيث السيادة منتهكة والقوانين غائبة والدستور في خبر كان والديمقراطية مُغيّبة وإنعدام الإستقرار والتفسُّخ الإجتماعي وحروب الآخرين والتدخل في شؤون الغير والسلاح غير الشرعي يجول في كل أرجاء الوطن... إنّ الواقع السياسي ميؤوس منه ومفتوح على الكثير من الاحتمالات المتشائمة والمدمّرة لكل مقومات الجمهورية وهذا الأمر بشهادة المجتمع الدولي والذي يدّعي حرصه على سيادة الوطن ولكن عملياً وعلى ما يبدو يغض النظر عمّا هو حاصل لحسابات إقليمية - دولية من شأنها إراحة دول على حساب السيادة الوطنية دونما نسيان المسؤولية المادية والمعنوية المُلقاة على عاتق رجال دين مسيحيين ومُسلمين وفي طليعتهم البطريرك الماروني الذي أعْطِيَ لصرحه مجـــد لبنان ولكن أفعال هذا البطريرك تدعو للشك وأرجو ألّا أفهم بالطريقة الخاطئة، حيث تحليل الوقائع تؤشر إلى أنّ صاحب الغبطة يكثر من المذكرات والعظات ولكن يبقى التطبيق العملي لها في خانة حيّز النسيان أو البطلان وهذا ما يدعوني ويدعو غيري إلى الشك.
إنّ مجتمعنا اللبناني وللاسف يُعاني من تزوير للديمقراطية وهذه إحدى الأسباب التي تجعلني وتجعل غيري من المُشككين في عمل البطريرك، وعليه واجب التفسير للرأي العام عن كيفية إعتبار الانتخابات «حرّة ونزيهة» ويغفل أنّ نسبة الـ59% من الناخبين قاطعوا الانتخابات كما التغاضي عن سوء قانون الانتخابات والطريقة التي أُدِيرت فيها الانتخابات، ولا حاجة لتبيان الأدلة على سوء القانون ونتائجه فمنذ العام 2018 والأمور الديمقراطية تسوء والبطريرك يكتفي بالعظات والاجتماعات التي لم تعطِ أي نتيجة مثمرة، وما نقوله ينطبق على مرجعيات روحية مُسلمة، وأكرر إنني أخشى من أن يكون أصحاب المقامات الروحية شهود زور، وإلّا فما عليهم إلّا الإنتفاض على الذات وبدء مسيرة نضالية قبل فوات الأوان، كفى تبريرات وكفى تنصُّل من المسؤولية في ظل غياب قيادات سياسية علمانية واعية ومدركة لخطورة الأوضاع، على القادة الروحيين إتخاذ زمام المبادرة وعدم إعفاء أنفسهم من المسؤولية وقد صدق قول المثل: «هيدي الحجة ما بتقلي عجة»...
إنّ الدولة الحالية ضعيفة البُنية السياسية والهيكلية والخروج من هذا المأزق يتطلب إستراتيجية متكاملة تتضمن تفعيل الدور الإدماجي والتنشيطي للدولة وتوثيق الترابط بين الأمن والديمقراطية السياسية والتنمية وتوعية اللبنانيين وترسيخ قيم المواطنة الكاملة وإحداث النهضة الفكرية السياسية - الأمنية - الاقتصادية - المالية - الاجتماعية، وتنضيج البدائل الفكرية السياسية.
إنّ عدم الإستقرار الذي نعانيه اليوم له إنعكاساته على كل الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والتي هي أسبابها الأساسية عدم فعالية السلطة القائمة وإنحيازها لمصلحة ميليشيا تُسيطر على كل مفاصل البلاد المدنية والعسكرية وبغطاء من مسؤولين يدّعون الشفافية في ممارسة العمل السياسي والشفافية عندهم هي توأم العهر السياسي حيث سلّمت الدولة للدويلة وأنكرت للشعب ديمقراطيته ولم تعمل على تحقيق حرية وكرامة الإنسان اللبناني، وقّانا الله من خطر الأيام القادمة.
* سفير الجمعية العالمية لحقوق الإنسان، المودّة