بينما كان مسبار الأمل ينطلق من قاعدته في أرض الإمارات مخترقاً الغلاف الجوي وما يشبه المستحيل وصولاً إلى الكوكب الأحمر، ليصول ويجول في مداه ويرسل صوراً من المريخ أي من البعيد البعيد، فيكرس مدى أهمية هذا الحدث العربي والدولي بامتياز، كانت «الورقة الخضراء» في بلاد الأرز لبنان تحاول اللحاق به بالتحليق عالياً صعوداً نحو اللاحدود لتقطع كل أمل لدى اللبنانيين بإمكانية لجم تفلّت الدولار من عقاله، لما لذلك من تأثير مباشر على حياة النّاس ومعيشتهم واوضاعهم الحياتية والاجتماعية والاقتصادية على مختلف الصعد.
أما «ليرة بلادي» المسكينة التي كانت على مدى سنوات خلت «بنت عز» وقفت في حيرة من أمرها تندب حظها وتعيش على أمجاد وذكريات الماضي، علّها تنسى أو تتناسى ما وصلت إليه أيامنا هذه من تدهور كبير وخطير في قيمتها الشرائية من جهة، مقابل صرف عملة بلاد العم سام من جهة أخرى.
من هنا كان لا بدّ من حوار افتراضي ولو قصير ما بين الليرة والدولار علّ وعسى أن يُشكّل مثل هذا الحوار عاملاً رادعاً بالنسبة لكل القيِّمين والمسؤولين عن تدهور قيمة العملة الوطنية ومما قد يساهم أيضاً في إيقاظ ضمائر المعنيين بالامر من حكام ومسؤولين وسياسيين ومصرفيين في هذا البلد ليصغوا ولو لمرة واحدة إلى صوت العقل والضمير بعد أن أصبح هذا الاخير «مستتراً عندهم وفي خبر كان».
أما ماذا جرى بين الليرة والدولار من حوار افتراضي وماذا يجيب هو عليها باختصار للدلالة على عمق الهوة الكبيرة بينهما، هنا تكمن التفاصيل:
تقف ليرتنا اللبنانية على الرصيف المحاذي لمصرف لبنان «مكسورة الخاطر»، مذهولة، تسأل وهي تتطلع إلى فوق نحو الطوابق العليا، لترى الدولار يرفرف بسعادة ما بعدها سعادة، هل لك أن تساعدني لكي أعود إلى سابق عهدي من قيمتي الشرائية والوطنية على حدّ سواء،ولن أنسى لك فضلك هذا إذا ما فعلت. وربما سيأتي يوم أعيد إليك هذا الجميل كما وهجك ودورك في حال تعرّضت أنت لما أعاني منه أنا في هذه الأيام الحالكة.
يبتسم صاحبنا الدولار بسخرية، ويقف مزهواً دون ان يكترث لما سمعه من ليرة بلادي، ويجيب بالفم الملآن، عذراً لا أستطيع ان أفعل لك أي شيء مع علمي ويقيني انك لست المسؤولة عما وصلت اليه ماضياً وحاضراً، لأن من أوصلك إلى هذا الدرك الخطير هم أولئك المسؤولين من السياسيين والمصرفيين الفاسدين السارقين والناهبين لخيرات بلادك، الذين صرفوك بأبخس الاثمان وحولوا الاموال الطائلة وبدلوها بي «أنا الدولار» ومن ثم هربوا وحولوا ملياراتهم بالعملة الأجنبية إلى خارج البلد وأودعوها في مصارف ومؤسسات قد يصعب الوصول إليها الا من خلال تدقيق جنائي حازم وحاسم بكل ما للكلمة من معنى، وهو وحده كفيل بأن يدقق ويلاحق أدق التفاصيل المرتبطة بالاسماء والقيود والارقام والتواريخ والحسابات والارصدة والمصارف، بدءاً بالأصيل منهم، مروراً بالفروع من عائلاتهم وأسرهم وزوجاتهم وأبنائهم وأحفادهم وأصهرتهم وربما «أبناء الجيران» أيضاً.
يتابع الدولار رده بعنجهية قائلاً: اسمعي يا صديقتي الليرة، انا لا ذنب لي في ما تعانين منه، وما وصلت إليه، وما عليك الا ان تبدي عتبك على القيمين على شؤون وشجون بلادك والعباد، وتذكري دائماً ان تطرحي عليهم السؤال تلوَ السؤال، كما على المسؤولين في المصرف المركزي وأيضاً وأيضاً على كل من جمعية المصارف التي تعتبر المسؤولة بشكل أو بآخر عمّا وصلت إليه بالتكافل والتضامن والتواطؤ في ما بينها وبين عدد من أصحاب المصارف من جهة،وبين المسؤولين والسياسيين ومصرف لبنان من جهة أخرى، وإن أنسى فلن أنسى عدداً من الصيارفة الذين دخلوا في لعبة الغش والخداع والبيع والشراء وتخزين وإخفاء الدولار أو صرفه بناء على تعليمة من هنا أو إشارة من هناك، لا سيما القيمين على شؤون مصرف لبنان وجمعية المصارف أو أصحاب المؤسسات المصرفية التي حققت ارباحاً طائلة بالمليارات وعملت بدورها على تهريبها خارج لبنان، بينما المودع اللبناني لا يستطيع ان يحصل ولو على مبلغ صغير من جنى عمره الذي جمعه بعرق الجبين وأودعه في مصارف بلدك.
عندها وقفت الليرة مخجولة مما سمعت من الدولار، حائرة بأمرها لتقول لا بدّ أن يأتي يومٌ عزيزي الدولار وأن يكشف المستور عنهم فرداً فرداً وعن حساباتهم وارصدتهم، وتهريبهم للأموال إلى خارج البلاد بالتزامن مع سمسراتهم وسرقاتهم وصفقاتهم التي باتت على كل شفة ولسان في وطن الأرز لبنان، وعندها لا بدّ لي أن أستعيد ولو القليل من عافيتي وقدرتي الشرائية وسمعتي الوطنية، كما لا بدّ أيضاً ان يعود التعامل والتداول بي كعملة وطنية لا غنى عنها مهما جار الزمن وتبدلت الاحوال والظروف، ولا بدّ لهذا الليل الطويل من أن ينجلي.
هذا الحوار الافتراضي بين الليرة والدولار أوردناه لا لشيء الا للتأكيد مجدداً على انه لا سبيل للخلاص من الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية التي يُعاني منها لبنان حالياً إلا من خلال العمل بكل الامكانات المتوافرة لوضع حدّ نهائي وجذري لمخالفات أولئك المسؤولين والسياسيين تجاه البلد والناس دون رادع أو وازع وأي شعور بالمسؤولية أو ضمير.
أما كيف السبيل للكشف عن موبقاتهم المتلاحقة، «هينة»... وكيف ذلك؟؟ نعم، من خلال اللجوء إلى القوانين المرعية الاجراء في دول عديدة تمّ تهريب الأموال إليها مثل سويسرا على سبيل المثال لا الحصر أو غيرها من البلدان حيث يفترض أن يتكفل رجال قانون مختصون ومحامون بالتواصل مع سلطات تلك الدول المعنية بالأمر، بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية لتزويدهم بالمعلومات المتوافرة حول هذا الموضوع، وما على تلك الدول حينها إلا التعاون مع التدقيق الجنائي الدولي المكلف بمتابعة هذا الملف وتزويده بأدق التفاصيل حول التحويلات والمبالغ والأسماء، وعندها لا بدّ من نشر وقائع مثل هذه التحقيقات بالشكل والمضمون على الملأ، لمعرفة من أودى بلبنان إلى هذا الحضيض والوضع الإقتصادي والاجتماعي الخطير وإلى حافة الجوع والعوز والفقر والمرض، فيما مسؤولو البلد وسياسيّوه يتنعمون بأموال الناس والمودعين في قصورهم وبيوتهم وامتلاكهم لليخوت والطائرات الخاصة والأملاك والأراضي والأموال الطائلة بما يشبه حيتان المال الذين لم ولن يشبعوا حتى الآن من كل ما طالته أيديهم ولو بالحرام. أما بالنسبة لـ«ليرة بلادنا» فنقول الصبر جميل، والفرج قريب وستعودين للتألق من جديد، كما قيمتك الشرائية أيضاً، وللدولار فنقول، صحيح انك تخاطب ليرتنا اللبنانية حالياً «من فوق» لكن إعلم انه في نهاية المطاف لن يصح الا الصحيح، وعندما تعود الأموال المنهوبة من الخارج إلى لبنان سترى جيداً ان ليرة بلادي كانت ولا تزال وستبقى «بنت عز»...