لا يمكنكم تصوّر ما أعاني منه، من صعوبة في التحدّث عن أستاذي في الجامعة اللبنانية، البروفيسور القاضي خالد قباني، بغير لغة العاطفة الجيّاشة التي تخالجني نحوه، غير أني في مناسبة ترشّحه للانتخابات النيابية سألتزم الواقع المجرّد للتحدّث عن شخصية الإنسان والدكتور والوزير، تلك الشخصية التي دخلت عالم السياسة من باب الاستحقاق والجرأة في الرأي والموقف.
قلّما جسّد قاضٍ وأستاذ جامعي، في شخصه هذا التناغم بين طباعه وخصاله كإنسان، ومناقبه ومؤهلاته كوزير للعدل والتربية، كما هي الحال بالنسبة إلى الدكتور قباني، عبر النهج الذي مارسه على مدى ولايته الوزارية. ومن أولى النتائج أنه يصعب تصنيف الدكتور قباني في إحدى خانات الشبكة المألوفة لأهل السياسة في لبنان.
أصالته هذه، وليدة عوامل عدّة، منها ما يمتّ إلى الطبيعة والقدر ومنها ما يتصّل بإرادته. فالصفة العصامية في شخصه هي التي جعلته مرجعاً دستورياً في بلده، وهي التي قرّبته إلى الجمهور والبسطاء من الناس، وفرضته أحد رموز الشارع السياسي البيروتي واللبناني.
عصاميّ، وفيّ لاقتناعاته ومبادئه وصداقاته، مزدرٍ للدسائس والألاعيب، متسامح دون محاباة، متعصّب لفكرة الدولة والمصلحة العامة، مشدود إلى العيش المشترك والوفاق الصحيح، يؤمن بالله وبالوحدة الوطنية وبعروبة لبنان ورسالته، في إطار محيطه العربي والعالم أجمع.
وما كان إيمانه بالتضامن والعدالة الاجتماعية وواجبات الدولة نحو الطبقات الضعيفة، إلا وجهاً لمفهومه الصحيح للديمقراطية تعزّزه تجربته الشخصية في الحياة ومعاناته.
صاحب ضمير ووجدان وقّادين، كثير التشدّد في محاسبة نفسه، صريح، مستقل في الرأي ومنفتح، لا يتأثر بالتهديد ولا بالوعيد، يعمل بدون كلل، تواق أبداً إلى الأفضل، ضنين بكرامته في الحياة الخاصة والعامة، ذروة في النزاهة واحتقار الإغراءات على أنواعها.
هذه المزايا كانت كفيلة بأن ترفعه إلى قمّة السلك الإداري والقضائي الذي خدمه، كيف لا وهو الذي ترأس مجلس الخدمة المدنية وتبوأ منصب مدير عام لدار الأيتام الإسلامية، وبرهن عن طاقة متعدّدة الجوانب مقرونة بحصانة خلقية.
لقد آمن الدكتور قباني بالدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه وطنه الصغير، فساهم في إدخاله في صميم معركة المصير العربي في أكثر من مرحلة من مراحل حياته. وكان حريصاً على أن يقنع كل بلد عربي أن لبنان المستقل هو مصلحة له، وأن لبنان يكون أكثر عطاءً للعرب عندما يكون ذاته ويعيش عروبته في كرامته.
وميّز الدكتور قباني لبنان بمشاركة في مؤتمر الطائف وفي أعمال اللجنة السابعة عشر التي انبثقت عن المؤتمر وأقرّت مشروع الطائف، هذه المشاركة وضعته مع الكبار من القادة العرب، فما من وثبة قام بها في قطر عربي إلا وأظهر فيه إبداعاته، حتى اعتبر رائداً في الحرص على الدستور اللبناني واتفاق الطائف.
خالد قباني يعرف كيف يصادق وكيف يخاصم، وشخصيته من الكبار، التي باتت مضرب مثل في الحكمة والاتزان والبصيرة يهجس بالدولة وفعاليتها.
ويوم تسلّم وزارة العدل، كان مهيأً للمهمة وأهلاً لها، ما جعل اسمه يتردّد مرات عديدة لتولي منصب رئاسة مجلس الوزراء ومعالجة مسببات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، خصوصاً أن صلاحياته الوزارية لم ينظر لها كامتيازات، بل كأمانة علمية وعربون ثقة تفرض على صاحبها واجبات وفي طليعتها نكران الذات والتجرّد التّام والترفّع عن كل مصلحة خاصة وتحسّس مشاكل المواطنين. وقد بلغ تقيّد قباني بهذه المبادئ حدّ التزمت، فلم يسخّر الحكم لمآربه ومصالحه.
رياضته الفكرية المفضّلة في الأيام العصبية التي نمرّ بها، هي في نقد ذاته، كما أنه رحب الصدر لرأي الآخرين، ويعرف كيف يؤدي دور الناصح لكل صديق أو طالب يهمه أن يحتفظ لنفسه بحب لبنان وتضامنه معه ومشاركته أحلامه. كما أنه الحريص على إعطاء دور للأجيال الناشئة التي لطالما رعاها وأحاطها بعنايته ومساعدته. وكم من موهبة لم تكن لتعرف طريقها إلى الناس لولا أن مدّ يده إليها بالتشجيع والرعاية. وكان أكثر ما يكون اهتماماً بالتقرب إلى من يرى فيه طاقة خاصة لخدمة وطنه، فمن شدّة اعتزازه الكبير بلبنان، يعرف أنه لا يزال هنالك الكثير من الكفاءات والإمكانات التي يحجبها عن الدور نقص أو تخلّف أو ضيق في مكان ما من النظام اللبناني القاسي أحياناً على خيرة أبنائه وأصدقهم.
قارب الأزمة مقاربة صحيحة من وجهها التكتيكي والاستراتيجي، فأدرك أن من شروط تحقيق الأهداف الرئيسية، التعاون الوثيق مع الدول العربية، وبالأخص المملكة العربية السعودية، والتمسك باتفاق الطائف، وبصلاحيات رئاسة مجلس الوزراء، في ظل الهجمة الشرسة عليها. غير أن الظروف الإقليمية والدولية والجو العام لم تتح له استخدام كامل طاقته لإيجاد حلول للأزمات السياسية التي تعصف بوطنه، الأمر الذي من المؤكد أنه سيتغير بعد فوزه بالانتخابات النيابية عن بيروت بإذن الله، آملين أن يتمكن من ترؤس كتلة نيابية تحقق أهدافه وتؤمن التنسيق التام بين نواب بيروت. على أن خالد قباني في سياسته الصادقة هذه، مقتنع من أن السعودية يجب أن تضطلع بدور رائد في توجيه العلاقات في لبنان، وشديد الحرص على أن ينعكس هذا الأمر إيجاباً على الاقتصاد اللبناني، وحماية مقومات السيادة اللبنانية.
كذلك لست بحاجة لأن استعرض ما كلّفه إيمانه بوحدة لبنان وكيانه وعروبته من جهود في مواجهة تيارات داخلية وخارجية معاكسة، يعلم الله كم كانت الهجمات شرسة عليه أحياناً. ولكن في أي حال لم يتنازل الدكتور عن بذل الجهود للحفاظ على ركائز المؤسسات والدعوة لإعادة السفراء وإقامة العلاقات المميزة مع الدول العربية، في سبيل بلده وأبنائه.
وفي نفس الوقت، تميّزت مواقفه من القضية الفلسطينية بالصلابة والثبات، سواء في مناصرته للحقوق الفلسطينية المهضومة بشتى الوسائل برعاية جامعة الدول العربية، والدول المعنية بالدرجة الأولى بهذه القضية، ولا ننسى كيف بلغ النضال البيروتي ذروته إبان الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة عام 1982.
وهكذا لم يحد الدكتور قباني يوماً عن الخطّ المستقيم والشفاف الذي سلكه، وهذه القناعات سوف تتجسّد مستقبلاً في البرلمان اللبناني بإذن الله، لما يتصف به قباني به من وطنية وإباء واتزان.
ومن المعلوم بأن التنسيق الفرنسي السعودي سوف يثمر في الأيام المقبلة، الأمر الذي سوف ينعكس إيجاباً على الانتخابات اللبنانية، وعلى حالة أهل السنة في لبنان. كل الاحترام وبالتوفيق دكتور قباني.
محامٍ وأستاذ جامعي