بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 آذار 2022 12:02ص خريطة طريق لبناء دولة المؤسسات

حجم الخط
إن الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة بوجه عام ولبنان بوجه خاص تفرض علينا تحديث النهج والآلية بما يتلاءم ومتطلبات المرحلة الراهنة، والحاجة أصبحت ملحة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى توحيد الرؤية ووضع الطاقات والإمكانيات وبذل أقصى الجهود لبلوغ الإصلاحات المنشودة والأهداف الوطنية التي هي بغية المواطنين، جميع المواطنين.

نرى أنه لم يعد بإمكان أحد أن يمارس السلطة في لبنان بدون رؤية وخطة ومعرفة. والثقافات السياسية المتبعة حتى الآن لم تعد جديرة بالمطلق بمعالجة المشكلات القائمة وقيادة البلاد نحو مستقبل آمن، وتأمين الترقي والنهضة الحضارية المنشودة للالتحاق بالأوطان المتقدمة في عصر لم يعد فيه مكان للأوطان المختلفة.

إن بلادنا وصلت إلى وضع خطير نتيجة التلكؤ أو إذا صح القول: نتيجة التعامل مع أهم ما يسوس حياتنا العامة. وإن المرحلة التي نجتازها اليوم هي مرحلة الامتحان الصعب لقدرة لبنان على تحقيق شروط استقراره قولاً وفعلاً. فهل ترانا عاجزين عن قيادة السفينة؟ أم أن نظامنا القائم لم يعد يفي بمتطلباتنا؟ أم أن الأساليب المتبعة عندنا فاسدة من أساسها؟ إن العلة لا تقتصر على نوع واحد من المرض بل إن ثمة عللاً عديدة قوامها ما هو موروث ومتأصل أنهكت أعراضها جسم الوطن وأضعفت مناعته وقد يكون في تشخيص هذه العلل مفتاح السر في فوضى الأفكار والأقوال والأفعال التي يشعر بها ويتأفف منها كل فرد وفي كل ساعة. فلنحاول إذن تشخيصها وتحليلها وتصويبها ما أمكن.

في رأس هذه العلل بل علة العلل: الطائفية التي عاثت فساداً وشراً وأورثت ثاراتٍ وأحقاداً تحولت بفعل الحوادث والزمان إلى سياسة بنيت عليها عهود. وهنا موطن الداء. إنها مشكلة الوجود اللبناني كله. وأقول الطائفية لا أقول الدين، إذ أن الدين مهما تعددت الطوائف فيه ومهما اختلفت نظرة هذه الطائفة وتلك إلى الماهية الإلهية، ومهما تباينت تفسيرات هذه الطائفة وتلك فالدين – كل دين – يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويوصي بالتآخي. ولكن المشكلة في لبنان هي ما يصح تسميته «بالطائفية التجارية»، الطائفية المتعصبة، المتزوتة، الحقودة، وهذه الطائفية التجارية هي التي تأخذ بخناق الدولة وتشل مسيرتها. وهي الوصمة المعيبة في لبنان الذي عليه أن يحرر نفسه منها والتي يلوثها دستوره وقوانينه ويتستر بها كلما أتى أمراً خاصاً.

ولقد بدأت الطائفية تكون مشكلة مع بداية التدخل الأجنبي في لبنان ولا سيما بعد فتنة عام 1860 وهي الفتنة المشهورة التي طبخت في مطابخ الدول الأجنبية وقدمت طعاماً مسموماً للبنانيين. وهذه حقيقة تاريخية لم ينكرها المؤرخون الأجانب أنفسهم. وقد عمد الانتداب إلى تغذية الطائفية التعصبية التي كادت تخمدها مشانق السفاح العثماني جمال باشا واستشهاد الأحرار المسلمين والمسيحيين عليها. ولقد استمرت الطائفية بدعة في تنويع المواطنين. كما استمرت في عدائها للكفاءات في مجال الخدمة العامة، وكرست الجهود التنموية في مناطق محظوظة على حساب مناطق أخرى، وأصبحت بفعل التشريعات والقوانين وحدات عضوية في كيان الدولة والمجتمع. والطائفية ما استبدت ببلد إلا وجعلته بين عاصفة تهب منه وعاصفة تهب عليه، وتتعهد هذه وتلك عاصفة عاتية آتية من الخارج. وهكذا فإن علل لبنان كلها: نظاماً ووجوداً هي تفرعات من هذه العلة الأساسية.

فهي السبب في جعل مراكز المسؤولية حقاً لمن لا يستحقونها، وهي السبب بتبديد أموال الخزينة المجمعة من أقوات الشعب على نفقات غير سليمة وغير مجدية، وهي السبب في رواج سوق المحسوبية وابتذال القيم وتسخير الأديان لأغراض مادية لا تتفق مع جوهر الدين ولا تقربهم منه، وهي السبب في تفسخ الوحدة الوطنية وزرع بذور التفرقة بين أبناء الوطن الواحد وقتل الروح الوطنية. إن المادة 6 و6 مكررة عدوة الكفاءات في الخدمة الوظيفية كانت ولا يزال مضمونها ماثلاً في بعض أحكام الدستور المعدل. إنها لعمري قاتلة الكفاءات والسبب الرئيس في شلل الحكم. إن المواطنية في البلدان الديمقراطية لا تدمغ بدمغات مختلفة كي تلفت الأنظار إلى نوعية هذا المواطن أو ذاك. إنها البدعة اللبنانية في تنويع المواطنين من حيث الطائفة التي ينتمون إليها وليس فيها شيء من الديمقراطية والتقدمية.

ومن علل لبنان المتأتية من ممارسة النظام الطائفي: «المحسوبية» التي ترتدي أشكالاً تختلف باختلاف الأشخاص والأسباب. أنني أترك لكم أن تتصوروا علاقات المحاكمين بالحكومين، وكيف أن تبادل المصالح يتم على حساب القانون والمصلحة العامة وهيبة الدولة.

من هنا دعوتنا لوضع قانون انتخاب نموذجي يضمن التمثيل الشعبي الأكمل، ودعوتنا إلى تحرير العمليات الانتخابية من أي عبث أو تلاعب مادي. ومن هنا علينا أن نعيد النظر في نظامنا المتبع ونسعى إلى وضع نظام جديد يقتلع مواريث النظام المختلفة من جذوره. فدستورنا الحالي لم يعد صالحاً لكثرة ما لحقه من تعديلات فأصبحت بعض نصوصه متناقضة وبعضها الآخر يتنافى والمبادئ الدستورية. فمنذ وضع الدستور عام 1926 أدخلت عليه تعديلات عديدة في عام 1927 و1929 و1943 و1947 وأخيراً في 21/9/1990، ويقولون اليوم إن آخر تعديل بحاجة إلى تعديل.

نحن في الواقع نعيش النظام القبلي بأوسع معانيه. نحن ثماني عشرة طائفة موزعة على ثماني عشر دويلة منها الكبير ومنها الصغير، وعلى الحكم أن يوازن بينها ولو على حساب الدستور والقانون والنظام. ووفقاً لهذا النظام تصاغ القوانين وفقاً لمقاييس الأشخاص ولا تصاغ لمصلحة الشعب والدولة. وهذا ما يدفع الشعب إلى عبادة الأشخاص ثم يلام على عباده كهذه!

نظامنا المتبع منذ عهد الاستقلال لا يتناسب مع أوضاعنا وكرامة حياتنا وتطلعاتنا، وأكبر دليل المآخذ الكبيرة التي نراها تتكرر. أن النظام الحالي لم يعد في مستوى التحديات وبات يحتاج إلى عصرنة، وترسيخ حكم القانون على الجميع، ووضع قانون انتخابي جديد على أساس برامج تتقدم بها إلى الناخبين منظمات سياسية وطنية لا طائفية وذلك في الممارسات الفعلية لا النظرية من خلال مسلكيتها ومن خلال متحداتها الاجتماعية. وكذلك إلغاء الاحتكار السياسي، واعتماد الكفاءة والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين والإنماء الشامل، ووضع خطة دفاعية وأمنية مدروسة تستند بشكل خاص إلى الأخطار المحدقة وصيانة الحرية علة وجود لبنان ورئته التي بها يتنفس، ويوم تحرره منها أو تفصله عنها تكون قد ألغيته، ولبنان الحرية إما أن يكون أو أن لا يكون.

وقولنا بالحرية لا يعني الفوضى ولا التساهل ولا الميوعة، الحرية للخير لا للشر، للبناء لا للهدم، للعمل الإيجابي على أساس الولاء للوطن، وكذلك وضع سياسة تربوية وطنية لا طائفية قادرة على تلبية المتطلبات مشفوعة بمنهج موحد وبتوحيد الكتاب المدرسي ونشر التعليم المجاني في كل بقاع الوطن وعلى قدم المساواة والتكافؤ. وإن هذه هي من دون شك من أخطر القضايا وأبرزها وأبعدها أثراً وأعمقها فاعلية وأكثرها استمراراً.

وعلينا إيلاء الثقافة أهمية قصوى لأنها الوحيدة التي توحد ولا تفرق وكفيلة ببناء الغد الأفضل ولا تزال هي الشعلة والعامل الفاعل الكبير في تطوير وتقدم المجتمعات البشرية على مدى العصور. إن لبنان 1943 لم يكن دور المثقفين كبيراً في بنائه وربما لذلك كان لبنان هزيلاً فتصدع وكادت تدك أسسه تحت ضربات الأعاصير العاتية. كما أني لا أعرف مجتمعاً انفصلت فيه السياسة عن العطاء الثقافي والإبداع وكان له شأن بين المجتمعات. ففي الدول المتقدمة نجد المثقفين والعلماء والخبراء هم الذين يضعون الدراسات وعلى ضوئها يتخذ القرار. أما في الدول المختلفة فيصنع القرار حسب ما يراه الحاكم مناسباً، وإذا استشار فمستشاروه يختارهم من بين المقربين إليه الذين غالباً ما لا يملكون الجرأة على مخالفة الرأي وعلى هذا يُهمَّش دور المثقفين. لذلك يقتضي تحصين المثقفين وإشراكهم في صنع أي قرار وطني يتخذ، ورفع درجة التعبئة الثقافية الشاملة وتطوير قدرتها وإدخال النسيج الثقافي في الآلية العامة للنظام الجديد. وإن أقسى ما نعاينه في مرحلتنا الحرجة والخطيرة والحاسمة التي نجتازها اليوم هو الخطر الإسرائيلي والتلفيزي الموجه إلينا في أرضنا وكياننا والذي يهدد وجودنا، ولا يمكن أن نجابهه بأصناف الحلول بل بتعبئة كل الطاقات والإمكانات المادية والمعنوية.

إننا مقبلون على عملية بناء شاملة النطاق، وهذه العملية لن تحظى بأية نتيجة إيجابية إلا بجهود متماسكة وصفاء رؤية وإرادة حاسمة هي إرادة التغيير والنهوض واستحقاق الحياة التي تتجسد فيه طموحاتنا وتطلعاتنا.

إن الدولة القادرة على القيام بهذه المهمة، التي لا غنى عنها، هي دولة القانون والمؤسسات العاملة على تحقيق الديمقراطية بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية. ولا يمكن لدولة كهذه أن تنهض في لبنان ما لم يتوفر لها سياسيون أكفاء مترفعون عن الصغائر والمصالح الضيقة، متحررون من العصبيات على اختلافها، مسؤولون يدركون معنى وجود لبنان، ويجسدون في ذواتهم القيم الإنسانية، ويؤمنون بالديمقراطية قيمة بذاتها، ويلتزمون التقيد بالدستور والقوانين، مسؤولون يمتلكون رؤية سياسية عميقة وسليمة لما يجب أن يكون عليه لبنان على مشارف الألف الثالث، ومصممون على تحويل هذه الرؤية واقعاً يعيشه الشعب والمجتمع والدولة، مسؤولون لهم من تاريخهم ومواقفهم ونهجهم ما يجعلهم موضع ثقة اللبنانيين والعالم.