بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 تشرين الأول 2022 12:00ص ذو الفقار قبيسي... براعة البساطة وخفّة الوداع

حجم الخط
تصعبُ عليَّ الكتابة عن ذو الفقار قبيسي. أراهُ ينظر في عيوني الآن، يُتابع خُطى قلمي الجّاف على البياض الهائل بيننا. ينتظر منّي ما سأقول فيه، وما سأكتب عنه؛ لأنّه يعلمُ تماماً جسامة مُهمّتي أمام غيابه. فبأيّ حبر سأظلّل مشاعري بكلماتٍ، من فرط حضورها، ما عادتْ تصل إليه؟ اعذرني. فأنا لا أملك لغةً للغياب، لغةً لغيابك. وها أنت عبرتَ سريعاً خلف خطوط الوجود، وخلف خطوط الألم، أديّتَ آخر حركات الحياة وحدك، ودخلتَ في دورة السّكون العظيمة. لم تتصل بي كعادتك. ولم أتصل بك بعدَ آخر لقاء طويل في بيتك؛ حيث كانت حناجير الأدوية على الطاولة الفسيحة تثبّتُ حواف الحدود الظليّة بيننا. ربما قلتَ لي أنت حينها كلّ ما تريد ولم أنتبه. ربما أضأت أمامي شمعة الوداع الصفراء، ولم أتفطّن لشعاعها الخفيّ يغمرني. لكنني لم أقل لك أنا كلّ ما أريد. لم أرتّب معك أثاث هذا الغياب الثقيل. لم أطرح عليك أسئلة الوجود للمرّة الأخيرة. لم أحرّك فيك عقلك المتحفّز، كما كنت تمدحني بذلك دائماً، قبل أن ينزل عن كرسيّ السّفر في قطار المجهول. كنت أحتاج إلى بضعة سطور بعْدُ لأنهي حوارنا الذي لا ينتهي. لأُنزِلَ تجربتك في كتاب ربما. لأعاندك في رأي فأثير فيك شهوة البقاء حيًّا حتى تردّني عنه بكل ما أوتيت من ثقافة. أو لأقول لك فقط أنني سوف أفتقدك كثيراً. لكنك آثرت الرحيل صامتاً مثل فجر صيفيّ. فأنت قليلاً ما تتكلّم عن الموت. فالوجوديّ الحقيقي كما كنت تٌسمّي نفسك لا ينشغل سوى بالحياة وبالمواقف التي تتطلّب قرارات حاسمة. لم أرك مُتردداً يوماً في شيء. بلى، في قرار إرخاء لحيتك البيضاء الذي سرعان ما رجعت عنه. فلم تكن تحب أن تبدوَ كبيراً في السّن أو عجوزاً. لكننا لا نموت في الحقيقة إلا شباباً، تنقصُنا الخبرة والبصيرة، مهما جلس الخريف جَلْسة الحكيم في مفارقنا. لا أذكر تماماً آخر ما نطقتَ به قبل أن أغلق باب منزلك على صورة جسمك الهزيل وقد أسند ظهره إلى الشجرة الخبيثة. لكنك كنت تنعى البلد، وتقول أننا بحاجة إلى فكرة لبنان جديدة. وكانت نصائحك الأبويّة لي تبلل ظمأً قديماً عندي للخروج من مياه المستنقعات.
وأشهدُ أنك كنت لا تبثّ فيّ سوى الأمل، ولا تزرع في قلبي سوى المغامرة. أن أتجاسرَ على الحياة بحُسبان. كنت تقول لي لا تخف من الفقر ولا تأمن الغنى. وأشهد أني ما أخذت بأيّ نصيحة من نصائحك؛ لأنّ التسويف من طباعي، ولأنّ وقوفي الطويل في ظهيرة الوسط بين كلّ الأشياء أصابني بحمّى القعود والقلق.
في مهنة المتاعب، الصحافة، تعلّمتُ منك أشياء كثيرة. كنت أسأل فتجيبني بلا كلل أو تأفّف: عن الاقتصاد والبنوك والعملات والبورصات والتجارة؛ وعن السياسة والقادة والزعماء ومستقبل البلدان والشعوب. وعن الصحافيين الكبار في لبنان والعالم العربي؛ وعن فن كتابة المانشيت أو الخبر المُختصر في الصحافة البريطانية. وعن حكاياتك اللطيفة مع الملكة إليزابيت الثانية ومع كيم إل سونغ الرّهيب. وعن اصطياد الجَمَال في ينابيعه الأولى. وكنا نجوس معاً ديار كل فكر وفلسفة، وكل أدب وفنّ، ونسحب الليل في حديثنا حتى أطرافه في مقهى في شارع الحمرا أو فردان. وعندما نعود رجالاً إلى منازلنا كنتَ تسبقني في الكلام وفي الأقدام. كنتُ أناديك بالأستاذ ذو مع أنك لا تكترث للألقاب. فقد كنت مترفّعاً عن كل ما نعتقد نحن أنه يرفعنا شبراً شبراً عن الأرض. تمشي وحدك في عبق النهار وتحت مطرقة الليل. تصعد السرفيس من غير تكلّف. تأكل بضع حبّات من الفطائر على الطريق. فالشارع ملعب الصحافيّ ومكتبه الحقيقيّ كنت تقول. تُكلّم جميع الناس بلا مراتب أو حذر مفرط. البساطة كانت فنّاً برَعتَ فيه. قالوا عنك أشياء كثيرة لا تليق. نقلت لك في أمسياتنا عقب انتهاء دوام العمل معظمها، فلم تغضب أو تتأثر. كذّبتها أمامي إما بالأقوال أو بالأفعال. وأنا صدّقت الأخيرة لأنّني اختبرتها فيك. فقد ظهرت لي كريماً مقداماً في إذلال المال. قليلاً ما قبلتَ أن أدعوك على نفقتي الخاصة. كنتَ تحبُّ الحديث معي. يجعلك تقول كلّ ما في نفسك. وكلّ ما كان يدور من أفكار في خلدك. بعضها تفتّقت بها قريحتك وأعانتك عليها سعة اطلاعك وطول باعك في الحياة واقتدارك في صناعة الأفكار وتحقيقها. وبعضها أخذته عن سواك خصوصاً في شؤون الدين وأحوال الفقه والتفسير. وأنا حفظت حديثك عن ظهر قلب. لكنني في كل مرة كنت مستعداً لأشحذ نصل أسئلتي أكثر كي أجرح الزوايا البعيدة في رأسك. وكان ذلك يُسعدك جداً ويُفرج أساريرك. فالدم الثقافيّ لا يُميت. «إيه شو بعد» كنت تقول لي لأبقي قنديل أسئلتي مشتعلاً في وجهك.
أفكار كثيرة كنت أحبك أن تتراجع عنها. لو عاد بنا الزمن كنت سألحّ عليك فيها أكثر. لكنّ الزمن لا يعود والموت لا يتقيّأ أحداً. لماذا لم تتصل بي قبل أن تنسحب من حلبة النقاش؟ لماذا لم تأمر ابنك الهادي الذي كان زميلاً لي في المدرسة أن يخبرني بتدهور حالتك الصحيّة، فأزورك على الفور؟ لماذا وأنت تطوي آخر الأمتار في جغرافيا الألم، لم تفكّر في التاريخ؟ أيكون الألم الشديد قد أنساك القلم الرقيق؟ كنت سأشاكسك حتى الرفرفة الأخيرة. وكنت سأسحب من تحت جفنيك قبل أن تعانقا الأبديّة فكرةً تولد على العتبة. هل ينتبه الوجوديّ الحقيقيّ للعتبات يا صديقي أم أنّه لا يرى غير السّاحات الشاسعة؟ من يُضيّق علينا أكثر: الموت أم الحياة؟ ومن يحمل ذكرانا أبعد: الدار أم العتبة؟ 
حزني عليك يا أستاذ ذو سوف يمكث في مسافة هذه الهدنة الغامضة التي أخذها كل واحد منا من غير مقياس: أنا خلف زجاج الحياة الملوّن، وأنت خلف أسلاك الموت الشائكة.