سماحة الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان جزء عزيز وغالي من تاريخ لبنان الحديث، ومن تاريخ سعي العرب والمسلمين لتحقيق أحلامهم الكبرى. صرحٌ شامخ ووطني مؤثّر وفاعل، ورائد من رواد الوحدة الإسلامية، وعلم من أعلام لبنان، لم يعتمد في حياته إلا المصداقية التي كانت عنوان مسيرته النضالية التي كرّسته مفتيّاً جعفريّاً ممتازاً ورئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، مستمرّاً وسائراً على ثوابت الإمام موسى الصدر، التي أكّدت قدرته وكفاءته وحكمته في نجاحه في معالجة الأزمات المستعصية التي كانت تهبّ على الوطن بين الحين والآخر، مدعوماً ومؤازراً بتأييد شعبي كاسح، مستنداً على سيرة ذاتية ناصعة البياض تفيض طهراً ونقاءً، ومبادئ تجسّد الكرامة والعنفوان ولا تتوافر إلا بالكبار الذين كان في طليعتهم، وصلابة في المواقف التي كانت بالنسبة له خطاً أحمر، فحرّم على أي كان تجاوزها أو المتاجرة بها، وكم كلّفته هذه المواقف من تضحيات، وكم تعرّض بسببها للمضايقات والمكائد، لكنها لم تكن لتزيده إلا تصميماً وعناداً وتصلباً، وكان مقداماً، يفرض هيبته واحترامه على الآخرين، ويلقي الرعب والوجل في قلوب المنافقين، الذين ما تجرأوا يوماً على مقارعته، لأنهم أعجز من أن يقدروا على مواجهة شخصيته القوية.
كانت فلسطين محور قضيته والشعب العربي ذاكرته ورؤياه، هكذا كان طوال حياته، في شبابه وكهولته وحتى لحظة رحيله. وكان يلتقي مع العروبيين في الرأي أن قضية فلسطين قضية وجود لا مجرد قضية حدود، لذا فإنها قضية إنسان سُلب حقه في الحرية وتقرير المصير قبل أن تكون قضية أرض. كما كان يشاطر الآخرين أفراحهم وأتراحهم، همّهم ورجاءهم، حيال ما يواجه الوطن العربي في شتّى الأقطار من تحولات وتغيّرات وتقلّبات، وما يحلّ بالشعب العربي في مشرق العالم العربي ومغربه من نموّ ونكسات، من ازدهار وكساد، من بحبوحة وعجز، من نعيم ورزايا، لا بل ما يقع فيه من خطوب وما ينتظره من تطلّعات وآفاق.
كان لا يهادن ولا يساوم عندما تكون مصلحة الوطن والأمة العربية هي السبيل والهدف، ولا يخاف ولا يخشى لومة لائم، مفتي مميّز تهتزّ له البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وإذا ما دعا للانتفاضة أو الثورة أو حتى التظاهر. فهو عظيم من بلدي، لن يجود بمثله لبنان، ولا يمكن اختصاره في كلمات.
كان الراحل الكبير من دعاة العيش المشترك على كلّ الأراضي اللبنانية، وكان يرى فيه الدعامة الأساسية لبقاء لبنان. فإذا زال هذا العيش زال الوطن، وأثناء الحوادث الدامية التي عصفت بلبنان على امتداد أكثر من عشرين عاماً، تنقّل في أرجاء الوطن، غير عابئ بالرصاص والقنابل، فاجتمع مع رجال دين وأحزاب وسياسة داعياً إلى نبذ العصبية الطائفية، وإلى شدّ أزر العيش المشترك، ليعود الوطن إلى سابق عهده من الألفة والمحبة. وكان من دعاة الحوار بين جميع اللبنانيين، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وعقائدهم وحزبياتهم. فالحوار وحده كفيل حلّ الخلافات. كما أن الديمقراطية عنده هي مفتاح رقيّ البلاد وازدهارها.
كما كان رجلاً إنسانياً كبيراً في حنانه، في كرمه، في سخائه، قلبه مع المحتاج، مع الملهوف، مع الفقير، مع البائس. سواه يرى في المال مادة للاكتناز، أما في قاموسه فالمال مادة للبذل والإنفاق والنجدة والعطاء. ولذلك وبشجاعة فائقة كان يقاوم بؤر الفساد أينما وجدت، وكان يخوض معاركه بنفسه مع أصدقاء يشكّلون ثقة عنده، ويماثلونه في مزاياه. كان مع الجميع، ولم يكن فوق أحد. هادئاً متواضعاً، صلب المواقف، حاد الرؤيا، ذكيّ الإشارة.
كان في اعتلاله في الأيام الأخيرة من عمره حالة معاناة لأحبابه وخلّانه وأصدقائه، وما أكثرهم. وكانت لحظة فرقه الحياة لحظة ألم ولوعة لكل من عرفه وخبر مزاياه، مزايا ذلك الإنسان الكبير والفذّ. ولا تسأل عن سرّ الحياة في لحظة الوفاة، لأنه منها تبدأ رحلة البقاء حيث يخلّد العظام بما تركوا من أعمدة وخدمات وبصمات، وبما حملوا من زاد شريف إلى الآخرة، ليس فيه شيء من صغائر الدنيا، فالموت هو الحقيقة المطلقة في حياة الإنسان.
واليوم بيروت الوطنية حزينة على فقدان الإمام قبلان، لا سيما أنه وقف معها إبّان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وبقي كذلك حتى وافته المنيّة، وكان يؤكّد أن البيارتة أهل المقاومة، وأنّ بيروت كانت أوّل عاصمة عربية تتحرّر بفضل سواعد أبنائها من الاحتلال الإسرائيلي، وهي أوّل من تبنّى القضية الفلسطينية وتصدى للعدوان الثلاثي عام 1956 أيام الرئيس الزعيم عبد الناصر، وواكبت كل قضايا العرب، وكانت تنبض بدعمها للثورات والانتفاضات، ووقفت مع ثورة الجزائر ودعمت الشعب الفيتنامي وشعوب أميركا اللاتينية وكانت حريصة دوماً على القضايا الوطنية والقومية.