بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تشرين الأول 2022 11:32م رمزية القادة في رحيل آخر زعماء الإتحاد السوفييتي

حجم الخط

الثلاثاء 27 آب 2022 أعلن المستشفى التابع للرئاسة الروسية عن وفاة الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف عن عمر 91 عاماً. المكانة والاحترام الكبير من قبل الدول الغربية لهذا القائد العتيق، الذي ترأس الحزب الشيوعي السوفييتي في الفترة ما بين 1985-1991، وأصبح رئيساً لدولة الإتحاد السوفييتي ما بين 1990-1991، قابلهما استياء أكبر من قبل الروس الذين حمّلوه مسؤولية المشاركة في تفكّكوانهيار الإتحاد السوفييتي العظيم عام 1991، والذي وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه أكبر كارثة جيوسياسية حصلت في القرن العشرين.

غورباتشوف مهندس الإصلاح و"إعادة البناء" (البريسترويكا)والحائز على جائزة نوبل للسلام في سنة 1990 لدوره الأساسي في التغييرات الجذرية التي حدثت في العلاقات الدولية بين الشرق والغرب، كان له دور أساسي في سقوط جدار برلين في 9/11/1989، وانهيار الستار الحديدي، وإنهاء الحرب الباردة ونظام الثنائية القطبية في سنة 1991، وتفكيك الإتحاد السوفييتي، والتمهيد لتوقيع الرئيس الروسي الأول بوريس يلتسن على اتفاقية حل اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية. وقد حظي غورباتشوف أيضاً بإشادة القادة الغربيين بسبب التزامه بمسار السلام والديمقراطية، ومعارضته الحرب الروسية على أوكرانيا، وذلك بالرغم من موقفه السابق المؤيد لانضمام شبه جزيرة القرم الأوكرانية إلى روسيا بموجب الاستفتاء الشعبي في القرم عام 2014، وفي وقتٍ بلغت شعبيته مستويات ضعيفة جداًفي روسيا منذ تحول رمزاً لانهيار القوة العظمى للإتحاد السوفييتي، ولسنوات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة.

قرار الرئيس بوتين بعدم حضور جنازة ومراسم دفن غورباتشوف له رمزيته الكبيرة على صعيد الماضي كما الحاضر. رحل غورباتشوف بدون مراسم تكريم رسمية كاملة، واكتفي بـ"عناصر جنازة رسمية" ومشاركة "حرس الشرف". جدول الرئيس لا يسمح بالحضور! يا له من جدول! إكتفى بوتين بوضع الزهور الحمراء وإلقاء النظرة الأخيرة في المستشفى على نعش غورباتشوف المفتوح حسب التقاليد الروسية كأنه يقول: رحلتَ الآن إلى عالمك السوفييتي المنتهي قبل 31 عاماً، ومعك أخبار قيامة الإتحاد الروسي من عظيم التاريخ في عهد بوتين، وإعلان "شراكة فوق استراتيجية بلا حدود" بين موسكو وبكين، والاتفاق بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ على إسقاط نظام القطبية الآحادية وإنهاء الهيمنة الأميركية على العالم، والعمل على تأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

ما زالت الحرب العالمية بالوكالة في أوكرانيا والأقاليم المنفصلة عنها مستمرة بعد ستة أشهر على بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في 24 شباط 2022. سيناريوهات الحرب تأرجحت كثيراً بين الإعلام المؤيد لروسيا والإعلام الغربي، وعلى الأرض تغيّرت مجريات المعارك كثيراً، ودخلت الحرب الأوكرانية في مراحل عديدة، من توقع سقوط العاصمة كييف خلال 4 أيام، إلى تحول في استراتيجيات وأهداف العملية العسكرية الروسية نحو السيطرة على إقليم دونباس والمناطق الاستراتيجية في شرق وجنوب أوكرانيا، وهي مكاسب جيوسياسية أكيدة حقّقها الجيش الروسي في مواجهة نظام كييف الذي رفض الإستسلام والتسليم بالشروط الروسية لوقف القتال وإنهاء الحرب، إلى الدعم المالي والعسكري الكبير الذي حصلت عليه أوكرانيا من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، والدخول في حرب استنزاف طويلة للطرفين، وفشل الوساطات الدولية في التوصل إلى حل النزاع بالطرق السلمية، ودخول سلاح الروبل والغاز الروسي على خط محاصرة دول أوروبا المأزومة بين مصالحها الإقتصادية وتبعيتها لسياسة واشنطن.وفي المقابل إعلان كييف عن بدء الهجوم المضاد لتحرير خيرسون والأراضي الأوكرانية المحتلة بما فيها شبه جزيرة القرم المنضمة إلى الاتحاد الروسي منذ سنة 2014، والرد الروسي بصد الهجوم الأوكراني، وتوقف المفاوضات التي كانتجارية في تركيا، وعدم تهيئة الظروف المناسبة لاستكمالها وإحلال السلام، وتزايد الخوف الأوروبي من قطع إمدادات الغاز الروسي مع اقتراب فصل الشتاء.

المفوضية الأوروبية أعلنت في 1/9/2022 عن تأثر 13 دولة في الاتحاد الأوروبي بالقرار الذي اتخذته روسيا بوقف إمدادات الغاز الروسي عبر خط السيل الشمالي بداعي إجراء عمليات صيانة. المستشار الألماني أولاف شولتس أكد رفضه الاستغناء عن الغاز الروسي بالكامل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي هاجم روسيا في كلمته المطوّلة بمناسبة "المؤتمر السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم" بسبب حربها على أوكرانيا وسعيها إلى انقسام أوروبا، أكد في نفس هذه الكلمة عزمه على التواصل مع الرئيس بوتين لكي لا تُترك الساحة الدولية لتركيا كقوة وحيدة تتواصل مع روسيا، وعلى أن فرنسا ليست في حالة حرب مع روسيا، وأن المساعدات المختلفة التي تقدمها لكييف هدفها فقط تمكين أوكرانيا من الدفاع عن نفسها!. ويعتبر كلام الرئيسين الألماني والفرنسي دليلاً كافياً على عدم القدرة على إلحاق الهزيمة بنظيرهما الروسي، بالرغم من جميع الادعاءات بتحقيق نصر أوكراني قبل العودة إلى طاولة المفاوضات.

وفيما يبدو أن الإنتصارات العسكرية النهائية مؤجّلة، وأن حرباً لتغيير النظام العالمي لا بد لها أن تطول لغاية تحقيق ما يمكن من أهداف القوى الأساسية المتصارعة، وفي ظل عدم توافر الظروفالمناسبة والكافية للعودة إلى المفاوضات، رسائل عديدة تُقرأ من تأكيد الرئيس الفرنسي على استمراره في التواصل مع روسيا من أجل التحضير إلى السلام وتعيين محدّداته، ولعلها رسائل موجهة إلى الأوكرانيين ليأخذوا كافة الأمور بالحسبان عندما يقررون ما يريدونه، وما يقبلون به، وما يرفضونه، وكذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين للخروج من الأزمة الأوكرانية الطاحنة، والتعامل بحكمة أكبر مع القوى الطامحة إلى تأسيس نظام عالمي جديد.

مات غورباتشوف بعد صراع طويل مع المرض .. شيّعت الجنازة في موسكو في يوم الثالث من أيلول 2022 وسط غياب دولي شبه كلّي بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. وحضر فقط رئيس الوزراء المجري فكتور أوربان، الذي يتبع سياسة منفردة في أوروبا عبر تجارة الغاز مع روسيا، فيما اقتصر تمثيل العديد من الدول الغربية على مستوى السفراء. وأكّد الكرملين على إجراء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مكالمة هاتفية قدّم فيها التعازي إلى الرئيس الروسي بوتين. وفي العاصمة الألمانية برلين تم تنكيس علمي ألمانيا والإتحاد الأوروبي، كما نكست ولايات ألمانية أخرى أعلامها حداداً على الزعيم الروسي/السوفييتي الراحل، واعترافاً بإنجازاته في التحول السياسي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية)، وتوقيعه على "معاهدة (2 + 4)" التي مهّدت لإعادة توحيد ألمانيا وبرلين. هكذا رحل غورباتشوف رمزاً لقائد عالمي أكثر من كونه قائداً سوفييتياً/روسياً. وهذا ما عبّر عنه الرئيس الروسي بوتين بقوله: إن غورباتشوف ترك تأثيراً كبيراً على تاريخ العالم، وكان يجهد لعرض حلوله الخاصة للمشاكل. وهذا ما أشار إليه أيضاً الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الذي أعرب عن حزنه العميق لوفاة غورباتشوف، وقال أن الراحل كان رجل دولة فريداً غير مسار التاريخ، وبرحيله خسر العالم زعيماً عالمياً عظيماً، إلتزم التعدّدية، ودافع بلا كلل عن السلام.