من البديهي، أن يكون للإستحقاق الرئاسي صندوق رئاسة، يلزم جميع النواب، أن ينبروا في المدة المستحقة، وفي الموعد المعين، الذي يضربه رئيس المجلس لهم، للتوجه إلى البرلمان لإنتخاب رئيس الجمهورية، وفاق ما يفرضه الدستور والقانون والميثاق. فيدلون بأصواتهم في صندوق الرئاسة، في جلسة الإقتراع. يمارسون بذلك واجبهم الدستوري، الذي هم مكلفون به، وليس أي أحد سواهم. لأن الدستور اللبناني، أناط بهم وحدهم، مهمة إنتخاب الرئيس.
ومنذ أسابيع مضت، كان موعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون يقترب، ولم ينتخب رئيس، ثم شغرت الرئاسة الأولى، وتالى الشغور الرئاسي، ومضى على هذا الإستحقاق الدستوري، نحو ثلاثة أسابيع، وظل لبنان يعاني من الأزمة السياسة ذاتها، فلا يستطيع المجلس النيابي، الموكل، بل المولج به وحده هذه المهمة، كما قلنا سابقا، أن ينتخب الرئيس، لكي تبدأ عجلة البلاد بالدوران من جديد، على أساس مما هو متعارف عليه، ويبدأ بالتالي الشروع بحلحلة جميع العقد الدستورية والقانونية والإدارية العالقة منذ ذلك التاريخ، بسبب أو بـ«ذريعة»، شغور الرئاسة الأولى في البلاد، لا فرق!.. إذ كانت تتراكم الملفات، ويتراكم الشغور في الإدارات وفي المؤسسات، فتجمد المواقع والمراكز، ويصار إلى العمل فيها بالتكليف. وأما القرارات الثقيلة و المهمة، فتبقى معطّلة، حتى إنتخاب الرئيس.
يتابع اللبنانيون الشغور الرئاسي بكل ألم. ويتابع معهم المعنيون بذلك، من دول العالم جميعا، شؤون وشجون هذا الشغور الرئاسي. ونرى الإصطفافات السياسية، تتعاظم. ونرى رجال السياسة، يتقاذفون التهم بشأن العجز عن إنتخاب رئيس، أو قل بشأن إتمام هذه العملية الإنتخابية، والتي تبدو حتى اليوم، أنها تحتاج إلى معجزة، حتى يفك السحر والطلسم عنها. فتعقد جلسة إنتخاب الرئيس، ويكتمل النصاب القانوني، ويدور صندوق الإقتراع على النواب، ويدلون بأصواتهم، ويفوز من يفوز بالإحتساب القانوني. فينبري رئيس المجلس، ويعلن إسم الرئيس الفائز، ويطلب منه أن يدلي بالقسم، صونا للجمهورية وحفاظا عليها، وعلى عام البلاد، وكذلك على دستورها وقوانينها، وعدم المسّ بشرف العلم، وشرف الوطن، وعدم إرتكاب الخيانة العظمى، بالتفريط بسيادة الدولة على كافة أراضيها، أو بالتعامل مع العدو، أو بإنتهاك الدستور والقانون، أو التساهل في المحافظة على التراب الوطني، وعلى الأمن وكذلك على حدود البلاد.
ومنذ أسابيع، شرع رئيس المجلس، بالدعوة إلى الإنتخابات، فتحرك النواب للقيام بواجبهم. والشروع في إنتخاب رئيس، تحسسا منهم بدورهم، وبمسؤوليتهم الدستورية الجسيمة، عن كل تأخير. غير أنهم صاروا عند جميع اللبنانيين، في موقع الشبهة. لأنهم لا يذهبون إلى المجلس النيابي كل خميس، لإنتخاب رئيس. وإنما لتوجيه رسالة، من تحت قبة البرلمان اللبناني، إلى هذه الجهة أو تلك من الجهات المحلية أو العربية أو الدولية، بإعتبار أن الرسالة حين تكون موجهة، من هناك، تكون أقوى. ويكون لها صداها المحلي والعربي والإقليمي والدولي. ونحن نراهم يعملون ويلعبون أثناء جلسة إنتخاب الرئيس، من فوق الطاولة ومن تحتها، وفي كولساتهم كلها، ومن خلف الكواليس، لفرط الجلسة وعرقلة العملية الإنتخابية، وعدم تسهيل إنتخاب رئيس للجمهورية. ثم تكرّ الدعوات، وتتكرر المواقف غير المبالية، ويصير منبر المجلس النيابي لإرسال الرسائل، ويصير صندوق إنتخاب الرئيس، في أسوأ حال، إذ يصبح عرضة للتهكمات من السادة النواب، الذين جاؤوا لإنتخاب رئيس، فصاروا الجلسة، كما الصندوق، كما المجتمعين، إلى الهرج والمرج. ثم لا يلبث بعد ذلك، أن ينفرط عقد المجلس، على إيقاع: «هلا بالخميس... هلا بالرئيس».
تعوّد لبنان، منذ مطلع القرن الماضي، أن يكون صندوق بريد، عند كل إستحقاق هام، أو عند كل أزمة يمرُّ بها العالم أو يمرُّ بها الجوار العربي أو يمرُّ بها الجوار الإقليمي، بإعتبار ما يريد، أن يكون له «في كل عرس قرص». ولم يحسم أهله، أمرهم منذ تأسيس الكيان، ومنذ قيام الجمهورية، أن يصنعوا الدولة. ولا أن يبنوا الدولة، ولا حتى أن يصونوا ويحفظوا، ما إستلموا من منشآت الدولة التي «صنعت لهم». فظلوا طيلة عهودهم الماضية، يمتطون ظهر الدولة، ويعزمون في سرهم، كما في علانيتهم في كثير من الأحيان، على أن يظلوا خارج الدولة. بل نراهم لا يتورعون عن الإساءة إليها، إما بنهبها، أو بتخريبها، أو بعدم المحافظة على مؤسساتها، وعلى منشآتها، أو بالتفريط بالتراب الوطني، وتعريض أمن الشعب للأخطار، أو بالتآمر على الدولة، والعبث بسيادتها، وعدم القيام بصورة جدّية، في ممارسة الاستحقاقات التي يلزمهم الدستور، كما تلزمهم القوانين، باحترامها، والتقيّد بما تدعوهم إليه، في أوقات الإستحقاق على وجه العموم. وخصوصا فيما نشهده اليوم من الدعوة لإنتخاب رئيس للبلاد.
ففي أقسى برهة يمرُّ بها لبنان، بل في أهم مؤسسة في الوطن، يجري اليوم، تعطيل الدولة والوطن والبلاد، وذلك من خلال تعطيل المجلس النيابي، وعرقلته عن القيام بأداء دوره. فلا تتوقف أصوات السياسيين عن الردح، بل عن التهجم على هذه الجهة أو تلك في الداخل أو في الخارج، بدل المساهمة الإيجابية في التسديد والتصويب، لحثّ السادة النواب، على إنتخاب رئيس.
وكذلك الأمر، فنحن نرى كيف تتحول جلسة إنتخاب الرئيس كل خميس، مهرجانا إعتياديا للتحايل على الدستور، وعلى القانون، وذلك من خلال إطلاق الرسائل التضليلية، التي من شأنها، تهريب النواب، لتهريب الجلسة، من غير إنتخاب رئيس. فيخرجون من قاعة الإنتخاب، وهم يرددون: «هلا بالخميس».. «هلا بالرئيس»...
فإلام يدوم الأمر على هذه الحال. وهل يحتاج اللبنانيون اليوم، إلى ما يتبقّى للمجلس النيابي من سنوات، حتى يستطيع النواب أن ينتخبوا رئيسا للجمهورية، يسهل تشكيل حكومة، ويسهل بالتالي التعيينات المستحقة، أو تلك التي هي في طريقها للإستحقاق، خلال المدد الزمنية القادمة، لما يهيئ كل تأخير في هذا الشأن، لإنفراط البلاد، تماما كما حدث لها، في إنفراطها المشؤوم، طيلة سنوات الحرب الأهلية التي إستمرت عشرات السنوات.
أزعم أن وراء الأكمة ما وراءها! فإذا ما ذهب الخميس بالرئيس، دون أن يتم تشكيل حكومة يرضى عنها الضمير الوطني، الذي تشكّل منذ برهة «ثورة 17 تشرين1 العام 2018»، وإستقالة الرئيس سعد الحريري، وحتى اليوم فلماذا، لا يحق لنا أن نشكك في النوايا التي استحدثت بعد تلك الثورة، وربما ردّا عليها، على قاعدة من «الشيء بالشيء يذكر»، بأن الشغور الرئاسي، سيطول حتى إنتهاء مدة ولاية المجلس النيابي.
وهكذا تصير المعادلة في لبنان، على أسوأ وجه: فلا مجلس نواب شرعيا - إذا ما تجاوزنا مثلا، سوء النية في التمديد له-، ولا حكومة تحكم البلاد، إلا حكومة تصريف الأعمال، ولا رئاسة جمهورية تمسك بلباب الوطن، خصوصا ونحن نقطع الوقت، في ظل التنابذ القائم، حتى الموت الرحيم للدولة.فتتهاوى الإدارات تباعا، وتتهاوى المؤسسات تباعا، ويدخل لبنان في الفراغ الذي يخيّم فوق الإقليم. وآنئذ لا يدري اللبنانيون بعد ذلك ماذا سيحدث لهم، وعلى أية صيغة سوف يرسو مركبهم المخلّع، كقارب المهاجرين الهاربين و اليائسين.
فها هم يلهون، كما نراهم اليوم، في كل خميس، بتوجيه الرسائل، مثل السهام الطائشة، والتي لا تلبس أن ترتد إلى صدر لبنان/ الجمهورية، كل الجمهورية، بكل شعبها وبكل مؤسساتها، وعلى كافة ترابها. تلك الجمهورية التي أعطيت لنا، مع الإستقلال الذي أعطي لنا، ولم نكن على مستوى من المسؤولية. وترى صندوق الرئيس يتيما وحده، بعد كل جلسة هرج ومرج. وترى الوطن في أسوأ حال. وترانا اليوم «نبكي عليه مثل النساء». فنحن للأسف، لم نحفظه ولم نحافظ عليه «محافظة الرجال».
أستاذ في الجامعة اللبنانية