وكأن المرحلة التي نعيشها في لبنان حالياً، تختصر الزمن والأيام، وكأني بها في سباق مع التطورات والأحداث المتسارعة يوماً بيوم وساعة بساعة، أما كيف ولماذا انقلب المشهد اللبناني بين ليلة وضحاها رأساً على عقب من حيث ندري أو لا ندري، فبدا للقاصي والداني ان هذا البلد يتجه نحو المجهول ونحو ما لا يحمد عقباه نتيجة التراكمات والتشنجات والمهاترات التي خلفتها طغمة من السياسيين والمسؤولين الحاكمين والمتحكمين بوطن الأرز لبنان، مما أعمى بصرهم وبصيرتهم وباتوا غير قادرين، أو قل لا يشاؤون أن يروا ما يدور من حولهم وما يعانيه لبنان والشعب اللبناني بأسره من أقصاه إلى أقصاه من مآسٍ وكوارث اجتماعية وحياتية وصحية واقتصادية وبيئية نقدية ومالية وغيرها.
أما المشهد الذي تصدر الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي على مدى الأيام القليلة الماضية، كما الفضائيات أيضاً، والذي لا يزال يدور في فلك الأحداث المتسارعة والتطورات المتلاحقة يكاد يجعلنا كلبنانيين نتساءل عما تخبئه الأيام القادمة لهذا الوطن من مفاجآت أو تداعيات لما يعيشه المواطن اللبناني يومياً من بؤس وفقر وعوز وجوع. ليطرح السؤال مجدداً من هو المسؤول عن كل ما آلت إليه الأوضاع المتردية والمزرية التي تكاد تدمر البلد بكل ما للكلمة من معنى.
ينام المواطن اللبناني كل ليلة على خبر أو سلسلة من الاخبار التي لا تترك لديه حتى ولو بصيص نور أو أمل أو خيط رفيع يتعلق به ليرى ماذا يُمكن أن ينتظره في اليوم التالي، ومن ثم يستفيق على مشاهد ربما اعتاد عليها الا انها باتت تشكّل بالنسبة له كما للآخرين في الخارج حلقة متسلسلة في بعدها السياسي والاقتصادي وربما الأمني لأخذ البلد نحو مشاريع أو أحداث خطيرة قد لا يستطيع أحد ضبطها ووضع حدّ لها في حال تفلتت الأمور من عقالها - لا سمح الله» - وبات «كل مين إيدو إلو»، و«يا رب راسي» وهنا يكون مكمن الخطر الحقيقي على لبنان وشعبه من كل الطوائف والمذاهب والمناطق والشرائح والأحزاب والتيارات من دون استثناء.
يكاد المشهد يبدو مخيفاًِ للناظر إليه عبر وسائل الاعلام أو من خلال العالقين في سياراتهم على الطرقات لساعات طويلة، ينتظرون الفرج، لفتح الطريق من قبل قلة من الشبان وإزالة الاطارات المشتعلة وحاويات النفايات والعوائق الحديدية وغيرها التي يستخدمونها لإقفال الطرقات أمام العابرين عليها، وهم أناس لا ناقة لهم ولا جمل بما وصلت إليه حال البلاد المتردية، وهم كغيرهم يدفعون ثمناً غالياً من حياتهم وقوتهم اليومي واعصابهم وصحتهم إما للوصول إلى مراكز عملهم أو العودة إلى منازلهم بعد عناء وتعب فيفاجأون بحرق الدواليب والدخان الأسود الذي يتسبب بتلوث إضافي للبيئة مما ينعكس على صحة النّاس لا سيما المسنين والأطفال،ناهيك بالمرضى منهم وبكل من لا طاقة له على تحمل هذه المعاناة.
أما السؤال الأهم الذي يطرح على كل شخص يقطع الطريق على مواطن أياً يكن ذاك المواطن، هو لماذا تريد أن «تفش خلقك» بهذا الإنسان الذي هو مثلك، بات مهدداً بلقمة عيشه وبكل أشكال الجوع والعوز والمرض، فيما بامكانك التوجه إلى قصور ومنازل السياسيين والمسؤولين والوزراء والنواب والمصرفيين الفاسدين الذين سرقوا خيرات البلد ونهبوها وهرّبوا الأموال الطائلة إلى الخارج ووضعوا أيديهم على أموال المودعين دون حق أو مسوغ قانوني وأخلاقي وانساني.
أضف إلى كل ذلك،أنه كيف يُمكن لهذا البلد أن يتقدّم بشكوى في المحافل الدولية ضد العدو الإسرائيلي الذي أفرغ سمومه في مياهنا الإقليمية وعلى شواطئنا بدءاً من الناقورة وحتى الرملة البيضاء وتسبب بتلوث وخطر بيئي على طول الساحل اللبناني، فكيف يُمكن ذلك فيما نحن أبناء البلد نعمل لزيادة التلوث من خلال حرق الدواليب في الشوارع وبين المناطق السكنية مما يتسبب بالمزيد من الأوبئة والأمراض وكأن وباء كورونا لا يكفي مما يشكله من أخطار على صحة النّاس كل الناس، فيما السياسيون والمسؤولون والمصرفيون الذين تسببوا بمعاناة لبنان العديدة يتنعمون في قصورهم ومنتجعاتهم ومنازلهم دون رقيب أو حسيب.
صحيح أن حق التظاهر أو الاحتجاج على الأوضاع المعيشية هو حق مشروع بكل المفاهيم والقوانين المرعية الإجراء، ولا يختلف اثنان على ذلك، إنما ليس بالطريقة التي نشاهدها ونتابعها يومياً على الطرقات، ففي معظم الدول التي شهدت ثورات واحتجاجات وتظاهرات كان ذلك منظماً ومهيأ له بدقة وامعان، وما مشهد 17 تشرين وما شهدته ساحات بيروت آنذاك من مطالب محقة، كما الحال بالنسبة لساحات ثورات في دول عديدة أخرى إلا دليل على وجوب تنظيم مثل تلك التجمعات لتحقيق أهدافها المشروعة.
مشهد آخر أبهر عيوننا وصمّ آذاننا من خلال التصريحات والتغريدات والبرامج التلفزيونية التي ما برحت منذ سنوات طويلة تستضيف نفس المسؤولين والسياسيين الذين هم يتحملون مسؤولية ما حصل في البلد حتى الآن، وقد سئم النّاس من رؤية وجوههم الكالحة وسماع أصواتهم المزعجة وعدم الاقتناع بآرائهم غير المسؤولة، والقرف من تغريداتهم المتكررة التي لا تغني من جوع، لا سيما في هكذا ظروف مصيرية يُعاني منها لبنان واللبنانيون جميعاً.
نعم كأنها اسطوانة تدور في حلقة مفرغة حول نفسها لا تمت بأي صلة الى روح المسؤولية والوطنية، وهم لا يحاكون الواقع المرير لمعاناة هذا البلد وشعبه، همهم الوحيد اقتسام المغانم والحصص وتوزيعها على بعضهم البعض، وهذا ما يؤخر تشكيل الحكومة الجديدة حتى الآن، تحت ستار الخلاف على وزير من هنا، أو وزير من هناك أو حكومة من 18 أو من 20 وزيراً أو حقيبة لهذا المسؤول أو أخرى لذلك، فيما الدولار يحلق نحو الأعالي وبات يلامس 11 ألف ليرة لبنانية «والخير لقدام»، وبالطبع هم مسرورون لذلك لأن أموالهم المهربة إلى الخارج هي بالعملات الأجنبية، ولا يبالون بعذابات المواطن اللبناني المسكين.
أما للسادة رؤساء الطوائف الروحية في لبنان ورجال الدين جميعاً لا بدّ من الاصغاء جيداً إلى ما قاله قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس خلال زيارته التاريخية إلى العراق، من خلال الخطب والكلمات الصادقة والمعبرة والراقية التي دعا فيها إلى المحبة والتسامح والعيش المشترك بين مختلف الطوائف والأديان والمذاهب، داعياً الجميع بالعودة إلى الله الذي وحده أعطى الحياة، ونادى بالسلام ونشر المحبة بين أطياف البشر، دون ان يلفظ كلمة واحدة تتعلق بالسياسة من قريب أو بعيد، وصال وجال في كنائس العراق، وزار الكبار من ممثلي مختلف الطوائف والمذاهب الأخرى بكل تواضع ومحبة،معلناً في ختام زيارته أن وجهته المقبلة ستكون لبنان، وهذا ما يجعلنا نتوجه من جديد إلى رجال الدين في لبنان جميعاً كي يقتدوا بقداسة الحبر الأعظم، وأن لا يتدخلوا في زواريب السياسة الضيقة لما تشكله من خطر أعلى واقع البلد وأمنه ككل.
لذا لم يبقَ للبنانيين من أمل إلا المؤسسة العسكرية خاصة الجيش اللبناني الصابر والصامد، كما سائر المؤسسات الامنية الأخرى، لكي يمسكوا بزمام الأمور على الأرض، وأن لا يدعوا أياً المشاغبين أو المندسين من هذا الطرف أو من ذاك لقطع الطرقات أو حرق الاطارات، وأن يضربوا بيد من حديد كل من يقوم بمثل هذه الأعمال تحت حجج وذرائع واهية مع التأكيد على حق التظاهر والاحتجاج المشروع،وحسناً فعل قائد الجيش عندما قال:إن السلم الأهلي في لبنان هو خط أحمر.
أما نحن الذين أحببنا هذا البلد ونتمسك به حتى الرمق الأخير كوطن لا بديل عنه، سنبقى رغم كل ما نعاني منه نردّد مع كل من أنشد وغنى للبنان «لبنان يا أخضر حلو، ولبنان يا قطعة سما»!!