بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 شباط 2022 12:02ص عـن زمـن رفـيق الحـريري وأزمنـة التحلّل الـوطنـي

حجم الخط
كُتب الكثير وسيكتب المزيد عن رفيق الحريري. في ذكرى غيابه السابعة عشرة، هو يستحق، شهيداً ورئيساً ونموذجاً، الوفاء والتذكّر في أزمنة الِمحل والقَحل. فالسنون وتكرارها، لا تزيد ذلك التغييب المؤلم إلا حضوراً في الذاكرة، خصوصاً إزاء المشهد الراهن الموغلِ في الحضيض، فمسيرته الوطنية والسياسية والإنمائية والعربية طبعت مراحل لا يمكن لتاريخ لبنان الحديث أن يتخطاها، وهي ستبقى، لأزمنة طويلة، منارة ومعلَماً، تماماً كجريمة اغتياله الرهيبة التي ستبقى، لأزمنة طويلة أيضاً، شاهدة على الحقد والإجرام والوحشية المطلقة.

نصاب وطني مكسور

في ما يتجاوز الذكرى التراجيدية، نستحضر، «نحن»، لا شعورياً، رفيق الحريري لقناعة دفينة بأن استهدافه لم يتقصّد شخصه فقط، على أهميته الاستثنائية، بل دوراً ومكوناً ووجوداً وشراكة! في لحظة التفكّك الوطني، والاستهتار بالدستور، والتنكّر للطائف، ورهن السيادة، وتحلّل المؤسسات، وطغيان الخطاب الطائفي والعبثي، وتكاثر التحديات الداخلية والخارجية، يحضر طيف رفيق الحريري؛ العابر للطوائف والمتصدّي لتبديد هواجس المجموعات المتناحرة واستعادة التوازن الوطني، من دون أن يعلم – ربما – أن في ذلك حتفه. فالكيان اللبناني المتأسّس على توازنات وتقاطعات وسلوكيات وحسابات وهواجس طبعت بُنيته السياسية والطائفية، واستقرت كثوابت لا يمكن تغييرها أو تخطيها بسهولة، لا يستسيغُ هذا النوع من القامات، ولأجل ذلك كان القرار الأسود الذي ترجم في ظهيرة 14 شباط 2005 المشؤومة، ومن يومها والنصاب الوطني الداخلي غير مكتمل، في وقت يتظاهر كثيرون في سياق هروبهم إلى الأمام، أنهم غير معنيين بما يجري بحق لبنان والصيغة والدستور والعيش المشترك... وتلك جريمة ثانية، على أن الذكرى ومسيرة صاحبها مناسبةٌ لتقويم المشهد الوطني، والآخر الأكثر خصوصيّة.


المرحلة انتقالية، وفي الطريق إلى التسوية الآتية حتماً، ثمة تحديات كبيرة أمام استعادة التوازن الوطني، لا يجوز معها تغييب الذات ثم النواح غداً

بين العزلة والاعتزال

قبل ثلاثة أسابيع أعلن سعد الحريري اعتزال العمل السياسي وعدم الترشح أو الترشيح للانتخابات النيابية (إن حصلت في شهر أيار المقبل)، مورداً عدّة أسباب لقراره، منها: تعاظم النفوذ الإيراني في لبنان في مقابل التخبط الدولي تجاهه، وتلبّد الأجواء الطائفية، وانهيار مؤسسات الدولة، وسرعان ما كثرت التحليلات والاستنتاجات وردود الفعل، بين متخوّف من الضياع والساعي لاقتناص فرصة، ومن يقارب الأمر بواقعية على قاعدة أن التهميش حاصلٌ حاصل، ونصف المتباكين أو غالبيتهم تماسيحٌ بهيئة ذئاب. على أن جزءاً من هذا الشعور مفهوم، ففي أزمنة التأزّم والانهيار ومع انسحاق المواطنة في هذا البلد، يميلُ أتباع الطوائف إلى اعتبار الزعامات والقيادات مصدر طمأنينة!!

توازياً، بدا غريباً ومستهجناً ذلك الإصرار، المشبوه، على تصوير سنّة لبنان على أنهم طائفة قاصرة، عاجزة، لا تعرف ما تريد، وأنها، وفق هذا التصوّر الأعوج، تحتاج وصاية دائمة.. ولو من خارج شرعيتها! هل يكمن وراء هذا التضليل إحساس المنظومة بضرورة بقاء صيغة الفيتوقراطيا؟ لكن ماذا عن الجهات التي أنهكت السنّة بالابتزاز رمياً بين حدّي الإرهاب أو الرضوخ، فإذا بها تخرج للتباكي والتحسّر؟ وعن الطامحين والمندسين وهم كثر ولهم أيضاً فلسفتهم وطرائقهم في التسلّل للمشهد، وعمّن يريد منا أن نفهم من قرار الحريري، خلاف ما فهمناه وفهمه كثيرون، ضماناً لاستمراره السمج في المشهد؟!

ومع أهمية كثير مما كتب، ولا لزوم لكثير منه أيضاً، ثمة ملاحظات عامة، يمكن تسجيلها، لأن البحث المعمق يحتاج أبواباً مغلقة، وتجرداً، وتعالياً، ووعياً وطنياً، ميثاقياً، وإسلامياً يعصم من الخلل أو الشطط. ليس الوقت للمجاملات والسجع أو النواح. في البدء قد يكون سعد الحريري حرّر نفسه، ومنح تجربته فترة تقويم وتأمّل واستخلاص، وهذا حقّه.. وقد تثبت الأيام أن خياره صائب أو لا، لكن الطبيعة تأبى الفراغ كما تمقت تكرار الخطايا والمآسي وعدم التأهّل واستمراء تجرّع السمّ.

أولاً: إن الأزمة في لبنان وطنية بامتياز، وهي تطال كلّ الطوائف، ولو حاول البعض التظاهر خلاف ذلك، أو الهروب إلى الأمام. الأزمة وطنية لأن الإرادة مسلوبة، وحجم الانهيار والانكسار الذي تسبّبت به المنظومة المتسلّطة كبير جداً، وهي المسؤولة بالتكافل والتضامن عن الحضيض القائم.. ذهنية التسويات والمحاصصة والانتهاب وشرعنة الفساد والتغوّل على الدولة، واستغباء الشعب والعالم، ورهنُ السيادة أوصل إلى هذا الحضيض. وهنا نقطة البداية.

ثانياً: أزمة الطائفة السنية لا تُختصر بتمثيل الحريري لها، أو اعتزاله المشهد السياسي.. ومن التعسّف افتراضها كذلك. الحريري يتحمّل مسؤولية رئيسة في ما وصلت إليه في المعادلة الوطنية، وذلك الشعور (الحقيقي والمزمن والمؤلم) بالغبن والإقصاء والظلامة والاستهداف التي ترزح تحت وطأته الثقيلة والظالمة. لكن ماذا عمن حكموا باسمه، وتحت لوائه، وباتوا متعففين الآن، وحَمَلة لواء الظلامة السنية؟ ماذا عمن باعوا واشتروا في البازارات باسم مكافحة التطرف والإرهاب (السني طبعاً)؟ ماذا عن توليفات تحمل يافطات دينية، لزوم الاختراق، وهي تعمل بدأب وخبث لتحطيم هذه البيئة؟

الأزمة نتيجة متواليات معقدة، يختلط فيها الخلل الوطني الكبير وتحلّل الدولة، بآخر خاص ناجم عن تراكمات ومركّبات وعدم الأهلية. ما علينا، صحيح أن بُنية المجتمع السني منهكة حتى الصميم، لكن من المبكر والتعسّف استسهال الأحكام، الكلُّ «بلّ يده» والغايات شتى. وكما سبق القول، إن المراجعة ونقاش المستقبل يتطلب مسارات تتجاوز المقالات والتحليلات.. ومزايدات البعض.

ثالثاً: إن الانتخابات – إن حصلت – هي مجرّد محطة، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس، أي بخطة مرحلية.. ليس المجتمع السني فحسب، بل كل المكونات تحتاج إعادة تأهيل في الثقافة الديموقراطية وتداول السلطة وديناميات التغيير والثقة بالذات سعياً للتغيير للخروج من حضيض الفساد وحكم المافيات والميليشيات، واستعادة احترام العالم.. وبهذا المعنى هناك كثيرون مؤهّلون للدور والمرحلة، ولو حصلت أخطاء وزلات وتباينات. الباب مفتوح للجميع، والأكيد أن الآتي فيه الخير والنهوض من جديد.

ثم ماذا بعد؟

المرحلة الانتقالية، إن جازت التسمية، تقتضي متابعة متعددة المستويات سياسية ودينية ومدنية، كلّ بحسب مسؤوليته، وصولاً إلى إستعادة التوازن الوطني والسياسي. لبنان منهار، وفي الطريق إلى التسوية الآتية حتماً، ثمة حوار مع صندوق النقد، وإصلاحات، وترسيم للحدود، وانتخابات ينبغي أن تُجرى عاجلاً أو آجلاً وفق قانون منطقي (وليس قانون مسخ).. ولا يوجد عاقل يتوقع أن تحصل هذه الأمور اليوم أو غداً أو بعده، لكن ينبغي عدم تغييب الذات ثم النواح غداً.

الأكيد والثابت أن سُنة لبنان، وفي يوم استذكار رفيق الحريري المنتظرِ للعدالة منذ سبعة عشر سنة، يريدون وطناً متقدّما، ومواطنة كاملة، وهم، مع الجميع وبدون الجميع، متمسكون بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني، واستعادة الدولة والنظام والسيادة، والعيش الواحد، والعالم العربي، هوية وتاريخاً ومصيراً، والاعتزاز بالعالم الأوسع، مشاركة وصناعة للغد ومواجهة للتحديات، باحترام الشرعية الدولية، ورفض محاور الشرّ وأوهام الأقليات والسلاح غير الشرعي، وبحقهم كاملاً غير منقوص في إدارة البلد من دون وصاية أو أوهام أو استقواء.