بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 تموز 2020 11:48ص عبرة من الماضي لضمان المستقبل.. ماذا لو يطبّق لبنان «التجربة السويسرية» دفاعيًا؟

عناصر من الجيش السويسري أمام شرطي فرنسي وعسكري ألماني على الحدود السويسرية الفرنسية في الحرب العالمية الثانية عناصر من الجيش السويسري أمام شرطي فرنسي وعسكري ألماني على الحدود السويسرية الفرنسية في الحرب العالمية الثانية
حجم الخط
لم يلقّب لبنان بـ«سويسرا الشرق» لتشابه خصاله الطبيعية مع سويسرا فحسب، بل كونه طوّر نظامًا مصرفيًا مشابهًا لنظامها، طمأن به جميع أنواع وجنسيات المودعين، ولكن لسويسرا أيضًا تجربة ناجحة مع الحياد أو ما يسمى اليوم في لبنان «النأي بالنفس»، فهل يستطيع لبنان أخذ هذه السمة الناجحة من سويسرا؟ أم سيبقى نائيًا بنفسه «مع وقف التنفيذ»؟

مبدأ الحياد هو أحد المفاهيم المعقّدة في القانون الدولي العام، إلا أن اتفاقيات 18 تشرين الأول 1907، الموقعة آنذاك في مؤتمر لاهاي الثاني، حدّدت حقوق والتزامات الدول المحايدة، ونص أحد بنود تلك الاتفاقية، على أنه لا يحق لدولة محايدة المشاركة المباشرة في نزاع مسلح أو مساعدة أحد الأطراف في النزاع من خلال تزويده بالرجال والسلاح. وعندما يتحدث كثير من الباحثين أو صناع القرار عن الحياد، فإنهم حكمًا يتكلمون عن التجربة السويسرية.

هذه التجربة ومنذ أوائل القرن الـ 19 نجحت لأسباب عدة، منها الثقافة والتاريخ والاعتراف الدولي، في وقت كان الحياد سياسة فاشلة إلى حد كبير بالنسبة لعدد وافر من الدول. ساعد تاريخ البلاد بترسيخ هذا المبدأ، كونها اعتمدت الحياد لقرنين من الزمان، وما ضمن استمرار نجاح التجربة، هو تبني ثقافة وقف التسلح.

لذا، فأول ما يعرقل خطوات الألف ميل نحو الحياد الحقيقي في لبنان، هو تاريخه الحافل كلاعب أساسي في أي صراع إقليمي، خصوصًا مع وجود العدو الاسرائيلي ككيان منبوذ من محيطه، على حدوده الجنوبية. إلا أن تبني ثقافة وقف التسلح العشوائي، التي تحصّن الساحة الداخلية من أي خلل بالقوى، بامكانها أن تؤسس ليوم يُطبّق فيه بند «الطائف» الذي ينص على تطوير الجيش اللبناني ليصبح القادر الوحيد على التصدي لأي عدوان اسرائيلي أو أي عدوان آخر.

في لمحة تاريخية، تثبّت التجربة السويسرية كأساس لبناء سياسة حياد في أي بلد، نرى أن الدولة السويسرية حافظت على حيادها في الحرب العالمية الأولى والثانية، وهي الدولة التي تحدّها المانيا من الشمال وفرنسا من الغرب وإيطاليا من الجنوب والنمسا وليختنشتاين من الشرق، وتشغل أرضها قسماً من جبال الألب وجبال جورا، ولموقعها أهميته في وسط قارة أوروبا.

سويسرا أيضًا أرض التعددية، بحيث يبلغ عدد سكانها 7.8 مليون نسمة، يتحدث 75% منهم الألمانية، 20% يتحدثون الفرنسية، وحوالي 4% يتحدثون الإيطالية، ويوجد بين السويسريين عدد كبير من الأجانب يقارب مليون نسمة 80% منهم قادمون من دول الاتحاد الأوروبي.

الهدف من عرض خصال سويسرا الجغرافية والديموغرافية، هو إسقاطها على وضعية لبنان المميز أيضًا بموقعه وتعدديته الداخلية، مما يعطي أملًا أكبر بفعالية أي سعي جدي لايجاد صيغة حياد بعيدة عن المصالح الضيقة للبعض، التي من الممكن بلورتها لإعادة أمجاد الفرع الشرقي من سويسرا.

فكم تشبه اليوم نزوات بعض الفرقة الحاكمة في لبنان، نزوات نابليون بونابارت في أوائل القرن الـ 19، الذي كان له أطماعًا لا حدود لها، إلا أنها توقفت عند الحدود السويسرية بعد نجاح الأخيرة بـ«النفاذ بجلدها» والحفاظ على حيادها، مما جعلها لاحقًا وحتى اليوم من أكثر بلدان العالم ثراء، بدون اعتماد اقتصادها على الثروات الطبيعية.

قد تكون الفكرة غير مطروحة اليوم، إلا أن لبنان بحاجة الى تشريعات دولية تضمن فعلًا حياده، على غرار الضمانات التي صدّق عليها مؤتمر فيينا في 20 آذار 1815، برعاية الدول العظمى لضمان حياد سويسرا، وهي ما عملت جاهدًا على الحفاظ عليه من جهتها قبل وبعد التصديق الرسمي، مانعة عنها نيران الحربين العالميتين التي أحاطت بها، لا بل تحولت في الحرب العالمية الأولى الى مكان تلتقي فيه الدول المتحاربة للتحاور والتفاوض والى قاعدة للعمليات الإنسانية، وقناة لديمومة تجارة بعض المواد الأساسية.

هذه الضمانات يجب أن تأتي بعد فترة الضغوط الاقتصادية التي نعيشها، وقد لا نملك مقومات صمود سويسرا بوجه عقوبات ألمانيا في صيف 1940، قبيل تنفيذ خطة الغزو الفاشلة بعد احتلال الأخيرة لفرنسا، إلا أننا لا نملك خيارًا آخرًا.

لبنان اليوم لم يستطع تحييد نفسه عن نيران المنطقة، لا بل أصبح رسميًا ورقة في ملف الحل الشامل، الذي يسبقه أزمات وأزمات، لا يختلف اثنان على أن المرحلة الراهنة هي الأصعب في تاريخه، لذا الحل يجب أن يكون تاريخيًا أيضًا لانقاذه، فلنبدأ بتحصين الحدود جنوبًا وشرقًا وشمالًا، بدون اعطاء اشارة للطامعين بأننا لن نقاتل للدفاع عن وجودنا، فحتى سويسرا كانت وما تزال على استعداد للحفاظ على حيادها ولو بقوة السلاح، وهذا ما تعرفه الدول العظمى جيدًا.

الطامعون في لبنان كثر، وأيضًا المحبون له كثر إذا بادلناهم «المشاعر»، فإذا ساعدنا أنفسنا ووحدنا الخطاب وأصلحنا ذات البين، فلن يبقَ باب المجتمع الدولي مواربًا، مهما اشتدت الرياح.