بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 كانون الأول 2022 12:00ص عقدة أميركا من الفلوجة العراقية وطرابلس الليبية

حجم الخط
يبدو أن قلّة الأخلاق ليست حالة عابرة لدى بعض ساسة الولايات المتحدة، بل حالة مرضية متأصّلة في الإدارات الأميركية المتعاقبة. فرغم اعتراف وزير الخارجية الأميركي كولن باول في عهد رئيسه جورج دبليو بوش، بأنّ الأدلّة التي استندت عليها واشنطن لغزو العراق واحتلاله كانت كاذبة، فإنّ وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة ميشال اليو ماري تعمل اليوم على كشف زيفها بشهادة الأقمار الصناعية الفرنسية. وهو ما سبق وقاله بلغة شبه إعتذارية رئيس وزراء بريطانيا السابق وشريك بوش الصغير في غزو العراق توني بلير. اعتراف باول وشبه اعتذار بلير لم يعبرّا عن التوجّهات العميقة لبلديهما. فمبررات الغزو والاحتلال هي ما يقرره دهاقنة «المجمّع الصناعي العسكري» في واشنطن، والذي يمتلك أسطول إعلامي بامتدادات عربية وغربية بغية كما وتسويق أسلحته ومنتجاته العسكرية المتسقة مع مبرّرات الغزو والإحتلال والدمار هنا وهناك، وأينما وكلما اقتضت المصلحة الاستراتيجية العليا ذلك.
آخر ابداعات المجمّع الصناعي العسكري الأميركي، إعلان وزير البحرية الأميركية كارلوس ديل تورو الثلاثاء الماضي، عن إطلاق اسم «الفلوجة» على «السفينة البرمائية الأميركية الجديدة»، أول قطعة تحمل اسم معركة بعد أحداث 11 أحداث سبتمبر، وتزن 45 ألف طن وبلغ قيمة عقدها 2.4 مليار دولار. وفي سياق تسويق الإسم الجديد «يو إس إس الفلوجة»، أسهب ديل تورو في استذكار معركتي الفلوجة الأولى والثانية عام 2004، معتبراً أنّ التسمية تهدف لتخليد ذكرى جنود المارينز الذين قتلوا في الفلوجة.
وكإعلامي شارك في تغطية وقائع غزو واحتلال العراق، وشاهد بالعين والأذن المجرّدتين من كل تحريف أو تضليل أو تشويه، كيف تظهّرت نخوة وشجاعة أبناء ومقاتلي عشائر الفلوجة للزود عن بلادهم وعرضهم وليس عن مدينة المساجد فقط، ووثّق مع كثير من الإعلاميين الإنتهاكات ما بعد الجسيمة لحقوق الانسان في الفلوجة والتي ارتكبتها قوات الاحتلال ومرتزقتها من جماعة الـ «بلاك ووتر» الذين علّقت بعض أجسادهم على مداخل الفلوجة، وكانت هذه نقطة التحوّل على مستوى المقاومة العراقية على امتداد العراق، وباتت الفلوجة جذوة المقاومة وبوصلتها ونبضها الذي لا يلين.
وبهذا المعنى كان الإنتقام من الفلّوجة في معركتي عام 2004 بحجم دورها في إيذاء وإيلام القوات الأميركية وهي ترى النيران تشتعل في وحداتها وأرتالها المتقاطرة، فيما تدك القذائف مواقعها، والصواريخ المحمولة جعلت طائرات الشينوك والأباتشي تتساقط في محيطها. وبهذا المعنى أيضاً باتت الفلوجة فاعلاً رئيساً في المشهد العراقي برمّته، والندّ والنظير الاستراتيجي الوطني للمنطقة الخضراء وساكنيها الجدد.
لم يكن تدمير الفلوجة وقصفها بالأسلحة المحرّمة دولياً في محاولة لجعلها أثراً بعد عين، الحدّ الأقصى والأقسى للانتقام منها دون التمكن من إخضاعها. ويبدو أن المرارة التي أذاقتها الفلوجة لقوات الاحتلال وخصوصاً الآلاف من معاقي وجرحى حروب الفلوجة خاصة والعراق عامة، قد تحوّلت الى حالة نفسية مستدامة لدى القيادات العسكرية الأميركية التي يعبّر قرار وزير بحريتها عن حجم تلك المرارة التي يريد أن يحوّلها الى نصر على الأطفال والشيوخ في حي نزّال وحي الضباط والجولان وحتى محيط كباب حجي حسين والمساجد المقابلة له، وبينهما المستشفى ومبنى القائمقامية وصولاً الى الطريق السريع الذي يربط بغداد بسوريا والأردن.
رغم عبثية تاريخ الغزو العسكري الأميركي المنتصب على عبثية أدلة كاذبة تبريراً لغزو العراق واحتلاله، غالباً ما يحاول كتّاب هذا التاريخ تحويل انتكاساتهم وهزائمهم الى نصر يتم تخليده بمسميات مثل اسم «الفلوجة» التي باتت عقدة لا مجرد لعنة، ولهذا وجب ما هو أكبر من التخليد من وجهة نظر وزير المارينز.
قصّة الشعوب وخاصة العرب مع المارينز بوصفهم آلة الغزو الأميركية الضاربة عبر البحار والمحيطات، ضاربة في أعماق التاريخ الذي تتحدث صفحاته المعلومة وغير المطوية، عن إحراق بحارة طرابلس الليبية بقيادة «يوسف باشا القره مللي» للبارجة الأميركية «فيلادلفيا» عام 1801 لأنّ البحرية الأميركية رفضت دفع «الإتاوة» التي تدفعها السفن الأوروبية لحكام طرابلس لقاء عبورها بسلام عباب البحر المتوسط. 
ولمن يزور العاصمة الليبية طرابلس، وقلعتها البحرية التي كان يبسط «الطرابلسيون القرملليون» سلطتهم وسلطانهم على البحر الأبيض المتوسط من خلالها، عليه أن يرفع عينيه باتجاه تلك السارية الخرسانية الضخمة المنتصبة في ساحة الشهداء أو الساحة الخضراء، ليشاهد مجسّم البارجية الأميركية «فيلادلفيا»، المعركة التي خلدّها الليبيون عبر الزمن، واعتبروها من أبرز أيقونات الجهاد الليبي ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي.
إحراق البارجة فيلادلفيا، يعتبر من أهم انتكاسات البحرية الأميركية التي خلّدت ذكراها بطريقة لا تسقط بتقادم الزمن، فوضعتها ليومنا هذا، في صدر «نشيد المارينز» الذي يقول في مقدمته دون أن يتوقف الكثير عند معانيه وأبعاده العميقة «من هضاب مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس.. في البر، في البحر، في الجو، خضنا معارك الوطن».
إطلاق الأسماء والمسميات ليست حالة عبثية في العقيدة العسكرية العدوانية، لكنه حالة شبه عبثية وغير مفهومة في بعض مدن وعواصم بلاد العرب التي تطلق على بعض شوارعها وميادينها أسماء غزاتها والأمثلة كثيرة.
أمثلة تتطلب إنعاش ذاكرة وزير البحرية الأميركية الذي اعتبر «أن عملية الفلوجة تعدّ.. أشرس قتال شاركت فيه مشاة البحرية الأميركية منذ معركة هيو سيتي في حرب فيتنام». ويبدو أن التاريخ، أو وظيفة اللحظة عند تورو توقفا أمام حرب فيتنام، لتجنّب استذكار محرقة البارجة فيلادلفيا التي ربما تقوم إحدى حكومات طرابلس المشابهة لحكومات المنطقة الخضراء بتفكيكها وتسليمها الى واشنطن كما سلّمت حكومة الدبيبة مواطنها بوعجيلة مسعود المريمي بملف لوكربي المغلق قانونيا بوصفهما جزءا من التاريخ الوهمي لليبيا التي تتشابه بطولات بحارتها مع بطولات الفلوجة حدّ التطابق في الانتقام التدميري من العراق وليبيا رغم سعي المتأمركين وتنافسهم مع المتأيرنين على تغطية قرص الشمس بالغربال.