بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تشرين الثاني 2018 12:00ص على مسافة أيام من العيد الـ75 للإستقلال مجلس النواب يواصل التشريع لإلغاء مخلفات الانتداب

حجم الخط
مع اشتداد ضغط القوات الفرنسية في أواخر أيام المقاومة في بشامون ارسل الوزيران حبيب أبو شهلا ومجيد أرسلان خليل بعقليني والياس صدى وكانا من الحرس الوطني إلى الوزير البريطاني المفوض الجنرال سبيرز ليطلبا منه باسمهما سيّارة تنتظرهما عند الثانية بعد منتصف الليل في صحراء الشويفات حيث نصب الأمير فؤاد أرسلان، وكان في نيتهما الذهاب إلى مصر وتشكيل حكومة ثورة في القاهرة. وافق سبيرس على طلبهما وارسل السيّارة، ولكن عندما بلغ أمرهما الرئيس صبري حمادة على لسان الشيخ خليل تقي الدين أشهر بندقيته مهدداً كل من يخطر له ان يبرح بشامون في تلك الليلة.
في ذات الوقت طلب الرئيس حمادة من المتطوعين من أبناء منطقته ان يتبادلوا الحراسة على المقر المؤقت للحكومة، وعلى ان يطلقوا النار على كل من يخرج بغية الذهاب من بشامون حتى لو كان هو شخصياً.
إذا كان بعقليني وصدى من الحرس الوطني قد قام بهذه المهمة، الا انه يسجل بطولات لعدد من عناصر الحرس منهم أديب البعيني الذي كان في فصيلة درك مخفر حلبا، لكنه عندما سمع بالتطورات في تلك المرحلة المصيرية، وقيام حكومة بشامون المؤقتة، ترك مكانه والتحق بحكومة بشامون، وصار قائداً في الحرس الوطني، وفي إحدى المواجهات مع قوات الانتداب ابلى البلاء الحسن، كما استشهد المناضل سعيد فخر الدين.
بأي حال، فقد عادت الحكومة وتماسكت مع بعضها البعض حتى تاريخ 21 تشرين الثاني عندما أفرج عن الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح والوزراء والنائب عبد الحميد كرامي.
الجدير بالذكر، ان الجنرال كاترو كان قد وصل الى بيروت في تاريخ 16 تشرين الثاني موفداً من قبل الجنرال شارل ديغول لحل الأزمة، وهو جاء الى بيروت من الجزائر عن طريق القاهرة التي وصلها في 14 تشرين الثاني فجراً، حيث فوجئ بتظاهرات في القاهرة وهجوم صحافي عام يستنكر عمل فرنسا في لبنان.
حين وصل كاترو إلى لبنان باشر كاترو باتصالاته وأجرى لقاءين الأوّل يوم  18 تشرين الثاني مع رئيس الجمهورية بشارة الخوري والثاني يوم 19 تشرين الثاني مع رئيس الحكومة رياض الصلح اللذين جيء بهما سراً من سجنهما في قلعة راشيا إلى بيروت، فأبديا الكثير من الصلابة والاصرار على الاستقلال التام الذي لا مجال للحياد عنه أبداً.
اما حكومة بشامون، فقد وصل إليها عند الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأربعاء في 17 تشرين الثاني أحد الأصدقاء، وقال لها ان بيير بار أحد كبار الموظفين الفرنسيين في المندوبية العامة، اتصل به وكلفه ان يأتي إلى بشامون ليطلب من الحكومة ان توافق على مفاوضة الجنرال كاترو للوصول معه إلى حل للمشكلة اللبنانية.
أضاف هذا الصديق مؤكداً ان الجنرال كاترو يرغب في الاتصال بكم حالاً، وقد فهمت انه يطلب مقابلتكم في بيروت وهو استأجر قصراً في حيّ سرسق، نزل فيه ليظل بعيداً عن أجواء المندوبية وتأثيراتها وبعيداً عن موظفيها، وهو ندب بار لهذه المهمة نظراً للصلة الطيبة التي تربطه مع رئيس الجمهورية.
تناقشت الحكومة في هذا الطلب وتوافق الوزير حبيب أبو شهلا مع الرئيس صبري حمادة والوزير أرسلان على ان المفاوضة عمل لا فائدة منه، ولا يقصد الجانب الفرنسي منه إلّا محاولة انتزاع حقوق أو جزء من حقوق اللبنانيين، وذلك م لم يسلم به أحد، لا مجلس النواب ولا الحكومة الذين لا يقبلون ان يفرطوا في ذرة من اماني البلاد الوطنية.
يوم 21 تشرين الثاني 1943 افرجت سلطات الانتداب الفرنسي عن رئيسي الجمهورية والحكومة: الشيخ بشارة خليل الخوري ورياض الصلح والوزراء والنائب عبد الحميد كرامي فاستقبلوا على طول الطريق من راشيا حتى بيروت استقبال الأبطال، وفي الوقت نفسه كانت العاصمة تعد استقبالاً كبيراً لأعضاء حكومة بشامون.
لم تنته المشاكل مع الانتداب الفرنسي في الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1943، بالرغم من ان البلاد «اجتاحتها سكرة اعتزاز وفخر بإحراز استقلال لا تشوبه شائبة.. فقد اجتاحت لبنان من أقصاه إلى أقصاه مهرجانات واحتفالات رسمية وشعبية أقيم بعضها في الهرمل وفي بعلبك».
لم تنته الأزمة بانتصار الثاني والعشرين من تشرين الثاني، لكنها بدأت وكان على اللبنانيين حكومة وشعباً ان يتضافروا لانتزاع حقهم في الاستقلال وفي استرداد جميع مظاهره.. فاستقلال لبنان ليس مرهوناً بعودة رجاله من المعتقل بل بضمان حريته واستقلاله ولا بإنتهاء حكومة بشامون وعودة السلطات لممارسة دورها في بيروت، بل بالممارسة الدؤوبة للحرية والسيادة والاستقلال.
لقد انتهت احتفالات الابتهاج بالانتصار اللبناني، لكن الرؤوس الحامية لدى سلطات الانتداب الفرنسي لم ترم سلاحها، وهنا كان للمجلس النيابي دوره البارز «فعقد المجلس النيابي جلسته الأولى بعد 22 تشرين الثاني 1943 في الأوّل من كانون الأوّل وغصت قاعة الاجتماع بالنواب والمستمعين، وافتتح الرئيس صبري حمادة الجلسة بتلاوة الدعوة التي ارسلها إلى النواب الساعة الثامنة صباحا من يوم 11 تشرين الثاني حال أن بلغه اعتقال رئيس الجمهورية ورفاقه، وألقى بياناً عن تلك الجلسة المنعقدة في جو الإرهاب قال فيه: فقد أقام الجنود السنغاليون حواجز في مداخل دار البرلمان ليمنعوا ممثلي الامة من ولوجها، ولم يتمكن إلا سبع منهم من التسلل إلى الداخل بصورة عجيبة، فعقدوا جلسة قانونية على رغم فقدان النصاب بحكم القوة القاهرة، ووضعوا قراراً باسمهم وباسم زملائهم المكرهين على التغيب يستنكرون فيه الأعمال الفظيعة التي جرت ضد رئيس الجمهورية ورفقائه وأرسلوا احتجاجهم إلى الدول الغربية التي اعترفت باستقلال لبنان، مستصرخين الدول العربية لنجدة لبنان في محنته».
ثم قال رئيس مجلس النواب في ذلك البيان: «إنه والنواب الذين تمكنوا من الحضور قد أُبلغوا أوامر السلطات العسكرية الفرنسية بإخراجهم من المجلس وهم يوقعون على القرار الذي وضعوه استنكاراً لاعتقال رئيس الجمهورية ورفقائه، فأجابوا: (سنبقى هنا ولن نخرج إلَّا بقوة السلاح) وإنهم قد أخرجوا فعلاً بقوة السلاح. فيا لها من ذكرى».
وبعد تلاوة ذلك القرار المؤرخ بيوم الحدث عينه، تليت محاضر الجلسات التي عقدها المجلس النيابي بين 11 و22 من تشرين الثاني خارج قاعة المجلس وختم الرئيس حمادة بيانه بكلمات مؤثرة.
ومما جاء في خطاب رئيس حمادة: «ويسرني في هذه المناسبة ان أوجه إلى فخامة الرئيس الأوّل الشيخ بشارة خليل الخوري تحية المجلس وإعجابه، فهو كان ولا يزال حامي الدستور، والمضحي في سبيله بكل ما عز وهان، وإني أحيي دولة رئيس الوزارة والوزراء الذين اعتقلوا وسلبت حريتهم في سبيل بلادهم، ومن منّة الله علينا أن يكون المجلس قد اشترك في التضحية فكان سماحة الزميل السيّد عبد الحميد كرامي في معتقله ممثلاً لزملائه جميعاً في راشيا قلعة الأباة والأحرار».
وتابع الرئيس حمادة: «اما الزميلان الوزيران الأستاذ حبيب أبي شهلا والامير مجيد أرسلان فلهما مني كلمة خاصة، فقد عشنا معاً جنباً إلى جنب اثني عشر يوماً ستكون خالدة في تاريخ لبنان، وهي أيام عرفت فيها كيف صمد الوزيران وثبتا، وبحق جاهدا وناضلا وكيف افترشا الغبراء وقطعا الوهاد والجبال مشيا على الاقدام حتى يوفّرا لأمتهما وبلادهما رغداً وعزة وكرامة وحرية واستقلالاً».
وبعد كلمة لرئيس الحكومة، جرت مناقشة شارك فيها عدد من النواب، وتقدم خلالها اقتراحان بشجب أعمال الرئيس اميل إده، ووجوب محاسبته اولهما من حميد فرنجية والآخر من هنري فرعون.
وجاء في اقتراح حميد فرنجية: «ان مجلس النواب، نظراً للحوادث المؤلمة التي مرّت بالبلاد ونظراً لأن نفرا من اللبنانيين، كان والحمد لله قليل العدد، تآمر على دستور البلاد وحكمها الوطني، ولما كانت القوانين، الحالية لا تكفي لحماية الدستور والحكم الوطني من تآمر المتآمرين واعتداء المعتدين، خصوصاً عندما يتخذ هذا التآمر سبيل التفريق بين عناصر البلاد، وترويج الشائعات الكاذبة للنيل من الدستور والحكم الوطني. لذلك فإن المجلس يطلب إلى الحكومة بإلحاح بأن تضع بأقرب وقت مشروع قانون تقدمه للمجلس لقمع الجرائم التي تقترف ضد دستور البلاد وحكمها الوطني.
وقد قبل الإقتراح بالإجماع.
اما اقتراح هنري فرعون فجاء فيه: «ان مجلس النواب، على اثر الحوادث المؤلمة التي هزّت لبنان وأثارت الأمة وكادت تذهب بأقدس امانيها القومية، يشجب بشدة موقف أحد أعضائه اميل إده، وهو موقف يقابله المجلس والشعب اللبناني بالسخط والاستنكار الشديدين، ويطلب من الحكومة ان تتقدّم الى المجلس بأسرع ما يمكن باقتراح العقوبة التي يجب ان تنزل به».
فقبل الإقتراح بالأكثرية.
وفي تلك الجلسة التاريخية ايضا وافق المجلس على التعديل الدستوري بتغيير العلم اللبناني القديم وجعله بألوانه الجديدة «العلم الحالي».
لقد تميز مجلس النواب آنئذ بنشاط مستمر دون توقف، إذ ما أن انتهت الدورة العادية في 30 كانون الأوّل 1943 حتى فتحت دورة استثنائية جديدة في النصف الثاني من كانون الثاني 1944 لمواصلة واتمام العمل التشريعي مع بدء العهد الاستقلالي، «فلم يخف النشاط والنصاب مؤمن وللمناقشات طابع الجد، لإلغاء كل مواد متعلقة بالانتداب».