بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 آب 2021 12:02ص غداة مجزرة عكار

حجم الخط
إنّ أول ما يلاحظ أنّ الصفقات والتهريب، يمثلان تهديداً لركائز المجتمع والاقتصاد والدولة، وهذه هي آفة محلية، عكف على تحري مسبّباتها أكثر من باحث في علم الاجتماع والأخلاق والسياسة، فتوافقوا على أنها وليدة: تقديس المال وإحلاله في قمّة القيم بدون الالتفات إلى طريقة تجميعه، والتعطّش المتزايد إلى المال الحرام، والانحطاط في الأخلاق.

وفي لبنان، حيث عاش الفساد داخل الإدارات وتعايش معه بشكل مزمن، بات يتّخذ طابعاً حاداً ويجتاح شرائح المحازبين، ومن أسباب هذا الاستشراء الفشل في العقاب والمحاسبة، وإطلاق يد النافذين، ويغدو ذلك أكثر فأكثر من مشتقات الطبقة السياسية.

وفي النهاية، وفي تحليل البعض يخرج الفاسد صاحب حق مشروع والمواطن رجل عصابات، وكذلك القاتل فمكافح للخارجين عن كنف الدولة، والضحايا فمجرمون يستحقون العقاب. ويمكن الاستطراد بالقول أنّ هذا الحكم يعني أنّ المعتدي إنما يكافح الإرهاب، أما المعتدى عليه فيمارسه ويقتضي الاقتصاص منه. فكيفما نظرنا إلى المشهد نجد تبرئة الإرهابي القاتل المجرم، وإدانة الشهيد الضحية؛ فيما تنص المادة 314 عقوبات أنه يعنى بالأعمال الارهابية جميع الأفعال التي ترمي الى إيجاد حالة ذعر وترتكب بوسائل الأدوات المتفجرة والمواد الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة والعوامل الوبائية أو الميكروبية التي من شأنها أن تحدث خطراً عاماً؛ كما تنص المادة 315 عقوبات أنّ كل عمل إرهابي يستوجب عقوبة الاعدام اذا أفضى الفعل الى موت انسان أو هدم البنيان بعضه أو كله وفيه شخص أو عدة أشخاص.

لا تجدّ رداً شافياً على مجزرة عكار، التي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى، سوى ظاهرة مألوفة: عندما يمارس الإرهاب ذوي نفوذ وسلطة، فإنّ عملهم لا يكون إرهاباً، بل قمع للإرهاب، أما عندما يطالب بحقه شعب مسكين، معتدى عليه، مقهور، فإنّ عمله يصنّف إرهاباً وخروجاً عن كنف الدولة. هكذا هي الحال أيضاً بالنسبة إلى جريمة المرفأ، وجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، وسائر الشهداء الأحرار. لذا إنّ إرهاب الأقوياء لا يسمى في قاموس الدولة إرهاباً، بل يسمى من قبيل تبريره وتسويغه، مكافحة عصابات.

فكيف يستطيع اللبناني، أمام مشهد العنف المتناهي الذي يمارس عليه، أن يصدّق ما يسمى محاكمة المجرمين؟ أين هي العدالة؟ وأين هو الحق؟ وأين هي المحاسبة التي تتلازم والممارسة الديمقراطية في النظام السياسي؟ وأين هي القيم المجتمعية والإنسانية التي تزعم الدولة التزامها بها؟ لا بل أين هي القوانين التي تحاكم المجرمين؟ أليس اللبناني معذوراً والحال هذه في شعوره بالظلم، في جوانب حيوية، منها محكومة بما يشبه شريعة الغاب، وهي شريعة تحكم الأقوى بالأضعف، والأكبر بالأصغر. ألا يشكل هذا الواقع المرير سبباً أساسياً محتملاَ، من أسباب تفكك الدولة، والفوضى والفلتان الأمني، كما حصل مع عشائر العرب؟ أليس من الطبيعي أن يولّد الظلم ثورات وانتفاضات، وأن يولّد البؤس تمرّداً على مسببه أو مفتعله؟

بعد كل هذا من حقنا أن نتساءل: هل أهالي المنطقة المحرومة عكار هم رجال عصابات، والقاتل المجرم هو الضحية؟ أليس الفاسد المهرّب للمازوت هو الظالم والعتدي وأهالي المنطقة هم الثائرون ضد ظلم فادح لاحق بهم؟ أليس القاتل هو المتجبّر المتغطرس وأهالي عكار المهدورة حقوقهم هم المتمردون عليه؟ لو استكان أهل عكار لحالهم وللظلم اللاحق بهم ولم يُبدوا حراكاً على سياسة الطغيان لاستحقوا ازدراء العالم ولبُرّئت الدولة من اضطهادهم.

ثمّ إنّ من حقنا أن نُسائل أهل السلطة، إذ يعلنون حرباً على أهالي عكار، هل جرّبتم العدالة يوماً سلاحاً لمحاربة من تسمونهم عصابات؟ هل جرّبتم إنصافهم ورفع نير الظلم عنهم، لا بل عن خناقهم؟ هل جرّبتم تأمين الكهرباء والدواء والمواد الأولية لهم؟ هل جرّبتم وضع حدّ لممارسات القهر في حقهم ولتعريضهم لشتى ألوان التنكيل من دون مساءلة أو محاسبة للمسؤولين الفاسدين؟ هل جرّبتم القيام القيام بمشاريع تؤمّن لهم أبواب الرزق، علماً بأنّ أكثرهم يتخبّط في البطالة والعوز؟ إنّكم لم تجربوا شيئاً من ذaلك بل سلكتم أسهل الطرق وأعتاها بإلقاء وصمة العصابات على منطقة بأسرها والتعاطي معهم تبعاً لذلك، وهم في واقع الحال ضحية ظلم تاريخي واقع بهم على أيدي الدولة الآثمة على نحو مباشر أو غير مباشر.

ومع كل ذلك، فإننا نهيب بقياداتنا الوطنية، وبالأخص الرئيس الحريري، إلى السعي لإنصاف الشهداء وأهاليهم، وإحقاق الحق لهم، ورفع نير الظلم عنهم؛ لاسيما أنّ من شأن الوقوف مع أهالي عكار أن يعطّل مقولة أنهم خارجين عن كنف الدولة، وضمان لاستمرار قضية الشهداء الوطنية عالياً مدوياً، وإحراج من يقف في الصف الآخر، وبالتالي إرغامه على التخلي عن نهجه المعتمد على تزوير الحقائق. وبالتالي، فتح آفاق جديدة لإحقاق الحق في هذه القضية وقضايا محقة أخرى مترابطة، عسى أن تحظى مناشدتنا بالتفاتة جدّية من السلطة والقيادات الصالحة.