بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 حزيران 2020 07:18ص «غزوةُ الموتوسيكلات» تنعى العهدَ القوي وتعلنُ فشلَ حكم الدويلة

مَن يريد تدمير بيروت وطرابلس باسم شعارات الانتفاضة وغضب الناس؟

حجم الخط
ما يجري في لبنان فاقَ كل وصف. أداءُ السلطة السياسية كيديّ ومخيّب، ويستدعي ألف ثورة وثورة. بالتوازي، وبعدما كان الشارع مساحة لإدانة الطبقة السياسية وفضحها وكشف فسادها، أضحى في جزء منه أداة بيدها وتتمة لأدائها المشبوه، وما بين هذا وذاك تبدو الانتفاضة بما تعنيه من نقطة أمل الضحية الأكبر؟

يختفي الدولار من الأسواق (وهو أصلاً مفقود)، ثم تسري شائعات عن مضاعفة سعره، فتنطلق حملة العنف «المنظم جدا». تأتي جحافل الدراجات النارية لتدمر وتنتهك وتحرق بحقد وبربرية وتطلق شعارات موجّهة باتجاه معين.. ينعقد مجلس الوزراء ويقرر ضخّ الدولار... ينحسر العنف ثم تستمر الحياة وكأن شيئاً لم يحصل. هكذا تبدو الصورة التي باتت لكثرة تكرارها ممجوجة فيما الخاسر الأكبر الانتفاضة الحقيقية وكل المؤمنين بها كطريق ضروري لخلاص الشعب اللبناني.

من يريد حرق بيروت وطرابلس؟

ما جرى في بيروت، تكراراً، وما يجري في طرابلس على أيدي مجموعات تتقصد التخريب والاعتداء والتكسير بعبثية وطيش وحقد، يرسم علامات استفهام عن الجهة المحركة والقصد منه؟ فالأكيد أنهم ليسوا ثواراً ولا ينتمون إلى طبقة تعمل للتغيير والبناء ومحاربة الفساد. مشهدٌ محزنٌ ومؤلم ومخزٍ، لكن من الضروري وضعه في إطاره المناسب؛ أحزابُ السلطة، أو حزبها المهيمن، يحقق حلمه بشيطنة الانتفاضة للانقضاض عليها، والأدلة والقرائن تكاد تصرخ مشيرة إلى الجهة التي تدفع بهؤلاء في أتون الترهيب. هذا ما أرادته، باختصار، «غزوة المحبة» كما سماها الرئيس تمام سلام التي اقتحمت صفوف الثوار واستباحت الأملاك العامة والخاصة تحت شعارات غير مقنعة تستبطن أهدافاً سياسية مشبوهة، ثم إن غياب الحكومة ووزرائها، وطريقة تعامل الأجهزة الأمنية أمام مشهد إحراق بيروت وطرابلس يطرح ألف سؤال وسؤال؟! أما ذاك المنفصل عن الواقع فـ«لا تندهي ما في حدا».

عدم مسؤولية الانتفاضة عن التخريب لا يلغي مسؤوليات أخلاقية في مكان آخر والتأخير بطرح البرنامج وتنظيم الصفوف وتوحيد الأطياف هو ما تريده الطبقة السياسية لإعادة إنتاج نفسها

نعم، لا دخل للانتفاضة أو الثورة أو الموجوعين من أبناء المناطق، ومن الطبقات التي كانت متوسطة وباتت تحت خط الفقر بالتخريب الذي يحصل، ولا أهداف إصلاحية له، ويخطئ جداً من يبرر ذلك باسم الانتفاضة وغضب الناس (خصوصاً وأن ثمة من ينساق عن بساطة أن تضليل لتبرير الإرهاب الذي يمارس بأنه موجه ضدّ الطبقة السياسية والمصارف).. ببساطة ما يجري ويتكرر عند كل مفصل سياسي، هو أعمال ميليشيوية منظمة بأهداف سياسية واضحة؛ تشمل تارة حرف الأنظار عن نقاش مسألة السلاح، وتارة أخرى للضغط على الحكومة أو مصرف لبنان لتمرير قرارات محددة، أو لشيطنة الثورة وتدمير مدن بعينها، خصوصاً بيروت وطرابلس.

أين جرى ضخّ الدولار؟

فجأة أعلنت الحكومة، بُعيد غزوة التخريب، أو تحت ضغطها، أنها ستضخ «فوراً» كميات من العملة الأجنبية لتهدئة الأمور واستيعاب غضب الناس!! من أين أتت بالدولارات، هل مما تبقى من أموال المودعين، أم من احتياطي المصرف المركزي؟ وهل ستعالج هذه الخطوة الوضع المتدهور وتضبط جنون الأسعار أم ستسرّع في الانهيار؟ وهل ستذهب هذه الأموال إلى اللبنانيين أم ستهرّب إلى خارج الحدود؟

التعبير الأصدق عن ردة فعل من تلقى خبر ضخّ الأموال، هو ما انتشر على وسائل التواصل ومفاده أن «الاحتفالات تعم المحافظات السورية بعد خبر ضخّ الحكومة اللبنانية 300 مليون دولار في السوق اللبناني»، والمضحك أكثر أن أحداً من الصرافين «الشرعيين» لا يعرف إن جرى ضخّ هذه الأموال، ولا كيف يمكن الوصول إليها.. ببساطة، كما يقول الخبراء، كل ما يجري مجرّد مهدئات التي تسبق الانهيار، والحلّ، إن أرادت الحكومة حلاً، هو إعادة بناء الثقة.. وهذه الأخيرة مفقودة.

الجيش والمسؤوليات الكبيرة

ثمة سؤال آخر، هل يعقل أن يغزو آلاف الموتورين وسائقي الدراجات والمشاغبين وسط بيروت، ويسيروا في شوارعها آلاف الأمتار من دون أن تستطيع الأجهزة الأمنية اعتقال بعضهم؟! السؤال عن دور الجيش في ضبط الأمن وحماية الاستقرار والسلم الأهلي ضروري، وله ألف مبرر، خصوصاً وأن لا رهان في هذه الظروف والمتغيرات الداخلية والخارجية إلا عليه لإدارة أي فراغ محتمل أو قد يقع في أية لحظة.

حتى الآن، يسجل للجيش وقوفه بوجه الفتنة وعمله على ضبط الأوضاع، ولولاه لكان المشهد مختلفاً.. لكن الإمعان باستهداف مدن معينة، بما تمثله من رمزية معينة أيضاً ينقل النقاش إلى ما هو أبعد من سلاح متفلت وطموحات الهيمنة!

السلطة.. فالج لا تعالج

لا وقاحة أو جشع ينافس ما تتمتع به الطبقة السياسية في لبنان. البلد يراوح بين الإفلاس أو الفتنة الحارقة أو الجوع، فيما أطرافها غارقون في المحاصصة والفساد وتوزيع المغانم، من فضائح التعيينات وتغيير قرارات حكومية إلى التباين الفاضح في أرقام الدين العام والطريقة التي تم ترقيعه فيها.. وكأن لا مجتمع دوليا يراقب ولا شعب يتألم. هكذا تؤكد السلطة يوما بعد آخر، أنها كمن يكيد شعبها. هل يحصل في أسوأ بقاع الأرض وأكثرها فساداً أن يقدّم موعد جلسة مجلس الوزراء، لا لكارثة الإفلاس أو الجوع أو معالجة الملفات الحياتية أو ردّ ودائع الناس، بل قبل يوم من عيد ميلاد مرشح لوظيفة وحتى لا يبلغ السن القانونية التي تمنع من توليه منصب مدير عام!! السلطة لا تعير بالاً للشعب، لكنها هنا لم تعر اهتماماً للمجتمع لدولي الذي يطالبها بالشفافية والحكم الرشيد ووقف الهدر والفساد والمحاصصة حتى يمنحها مساعدات!

وما ينطبق على المدير العظيم يسري على مسألة تعيين محافظ لكسروان جبيل، ومن قبله على محطة سلعاتا وعرقلة التشكيلات القضائية وسلسلة تطول من تجارب الفشل التي طبعت «العهد القوي».

الثورة وتحدي المصداقية

إن تأكيد المؤكد حول عدم مسؤولية الانتفاضة الصادقة عن التخريب ونشر الفتنة وتقديم خدمات مجانية للسلطة وإخراجها من مآزقها، لا يلغي أن لها مسؤوليات أخلاقية وتاريخية في مكان آخر. ثمة مسؤولية كبيرة على الانتفاضة التي لم تستطع أن تنظم نفسها أو تطرح برنامجها أو توحّد أطيافها، ولم تستطع أن تتوافق على قيادة تتحدث باسمها، لأن هذا الأداء المربك وغير الواثق هو ما يريده أعداء الانتفاضة تحديداً، وما تريده الطبقة السياسية.

والأسوأ من ذلك كله، أن أطراف السلطة باتوا يتخذون من المطالب المعيشية والأزمة الحياتية والمالية مطية، باسم الانتفاضة، لتصفية الحسابات في ما بينهم، والضغط لتحقيق غايات وأهداف سياسية ومصلحية، بل ورمي البلد في أتون الفتن المذهبية والتوترات والصدامات. إن استمرار أطياف ومجموعات الانتفاضة بالتصرف كمن يلحسُ المبرد، أي يتوهم لذة الانتصار وهو يودي بنفسه إلى الهلاك؛ لن يزيد السلطة إلا نجاحاً. الآن وليس في أي وقت آخر إما البرنامج المنطقي، والقيادة الواعية التي تحترم الاختلاف والتنوع، وتحديد الأهداف العاجلة والمتوسطة والبعيدة، أو الاعتراف بأن الطبقة السياسية نجحت بإعادة إنتاج نفسها لعقود مقبلة.

لا يجوز وقد مضى قرابة تسعة أشهر على انطلاق انتفاضة 17 تشرين 2019 التي حققت بعض النجاحات المهمة، أن يتم الاكتفاء بترداد شعارات باتت ممجوجة (بالرغم من صوابيتها)، والغرق بتسويق الذات بشوفينية بلهاء، بدل وضع الخطط والبرامج والمذكرات القانونية والتواصل مع اصدقاء لبنان لملاحقة كل معتدٍ على السيادة والدولة وحقوق الناس. إن انتفاضةً لا تستطيع أن تحفّز المؤمنين بها لفرض التغيير والتصحيح، وتمنع المتاجرة بشعاراتها المحقة هي انتفاضة مربكة ولا يمكن الرهان عليها.. ونقطة على السطر.