بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 كانون الثاني 2020 12:00ص في الإرهاب وسواه!

حجم الخط
الإرهاب فعل ذهني أولاً. قد يبّرر العقلُ الحروب ويكون جرثومتها الأساسية. وما غير ذلك سوى غرائز وممارسات مختلفة في واقع الحال. وهكذا بالنسبة إلى سائر أعمال العنف والمقاومة. وينبغي، في كل الأحوال، ألا تكون هذه الممارسات أهدافاً أو غايات في ذاتها وإنما وسائل قصوى لا يُركن إليها إلّا عندما تعجز ممارسات أقل عنفاً منها!

يقتل البعض عدداً من الناس لإخافة ملايين من النّاس يزعزعون أيضاً بنى سياسية كالاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة..

منذ 11 أيلول 2001، يودي الارهابيون كافة كل عام بزهاء 50 إنساناً في الاتحاد الأوروبي وبنحو عشرة أشخاص في الولايات المتحدة ونحو 7 بشري في الصين ونحو 25000 بشري في أمكنة أخرى وخصوصاً في العراق وأفغانستان وباكستان ونيجيريا وسوريا.

في المقابل، تتسبّب حوادث السير كل سنة، بمقتل 80000 أوروبي و40000 أميركي و270000 صيني، أي مليون ومئتين وخمسين ألف إنسان مجموعين. ويودي داء السكري بثلاثة ملايين ونصف بشري سنوياً في حين يُهلك التلوث البيئي قرابة سبعة ملايين إنسان. فلمَ نخشى الإرهاب أكثر من خشيتنا أمثال هذه الأمراض، ولِمَ تخسر الحكومات الانتخابات بسبب من هجمات إرهابية متواترة لا بسبب تلوّث الهواء المزمن؟

تُشير لفظة «ارهاب» أساساً إلى استراتيجية عسكرية تبتغي تغيير وضع سياسي بنشر أجواء الخوف أكثر منه بسبب احداث أضرار مادية محققة. هذه الاستراتيجية تبدو في معظم الأحيان من صنيع أفرقاء ضعفاء لا يسعها أن تكبّد أعداءَها خسارة مادية أكبر. ولكنَّ مروّج الشر من كبار القوم هو أخطر من مدمنيه المباشرين.

لا شك في ان كل عمل عنيف يجلب المخاوف. غير ان الخوف، في الحرب العادية التي يتسبب بأضرار مادية، قائم وإنما بالتوازي مع هذه الأضرار. أما في الإرهاب، فالخوف هو بيت القصيد وهناك اختلال في التوازن بين القوة التي نتوسّلها والخوف الذي يسعى الارهابيون لاحداثه.

ليس من اليسير تغيير الوضع السياسي عبر أعمال العنف المختلفة. ولكن للارهاب وما إليه من أعمال العنف التي تبرّر أحياناً، قوةً ضاربة أو رادعة (من الخارج) أو وازعة (من الداخل) قد لا نلمسها إلّا بعد حين!

لمّا كان اليوم كل عمل عنيف لا فائدة كبرى تُرتجى منه لأنه ثبت لدى الدول الكبرى ان المطلوب توازن قوى أو رعب، فإن العنف المحدَّد والدقيق شأنه أن يجعل كبار العالم يعيدون حساباتهم في استمرار ويعيدون النظر في ما عليه عليهم العقل البشري المجرَّد من كل اعتبار للخصوصيات والعوامل المجهولة ونسبية الحياة على العموم. من هذا القبيل، أرى ان أعمال العنف المركَّزة والمشار إليها، هي أشبه بذبابة تحاول أن تقوّض دكاناً صينيّاً، أو يتّفق أن تدمي مقلة الأسد!

ان توسّل عنف ما لدى أمة مشهود لها بقوتها وعلوّ مكانتها، قد يكون مشروعاً وناجعاً في عقر دارها. أما في مجتمعات اضمحلت فيها هيبة الدولة العادلة وتسرّب إليها الجهل والقواني والتمسّك الحصري بأوضار المادة، فإنك تشهد فيها تداعي المجتمع والدولة! فلنروحن عقل العاقلين عندنا لننهض بالناس كافة إلى ذوي الكرامة، بدلاً من أن تكبو بهم قوى ضاغطة من هنا أو هناك، إلى هوّة المذلّة والانحطاط. ان لقيم الروح، عاجلاً أم آجلاً، في الشأن العام أيضاً، تأثيراً عميقاً فاعلاً، لا سبيل إلى إنكاره أو تقليل أهميته.

الصحافة الأدبية والتوجيه النيّر عموماً، من الوسائل الرئيسة المجدية في إنارة الأفكار وتفتيح العيون على آفاق الحق والمعرفة، وتوجيه الجماهير إلى وجهة الخير والتعاون المنبثق من صميم الأخوة الإنسانية والمنبعث من روح المروءة الوطنية. فلنركن إليهما ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.



أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه