بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 كانون الأول 2020 12:01ص ... قبل أن تذهبوا بالدولة إلى زوال!

حجم الخط
منذ فجر التاريخ السياسي شكّلت مسألة الدولة وإدارتها وقيادتها وتأمين سبُل الحياة فيها وحمايتها من أعدائها، الشغل الشاغل للفلاسفة والأدباء والمُصلحين. وفيما يرى البعض في الدولة تجسيداً للروح الاخلاقية، يرى فيها آخرون أداة استثمار تستعملها الطبقة الحاكمة وتخضعها لمآربها ومصالحها ومصالح التابعين لها. كما يرى فريق ثالث أنها مؤسسة اجتماعية كباقي المؤسسات التي تعنى بشؤون الرعية وتحكم حياتها في ضوء قوانين ودساتير تنشرها أمام الملأ. والدولة حالة تمتاز بالثبات وتتطلب الإخلاص والالتفاف حولها الذين هما مصدر قوتها. وهو ليس إخلاصاً لشخص ما أو لقوة تنتسب لأي جهة كانت أو لشيء مؤقت وزائل، بل لقيمة دائمة فوق الشبهات وكل التوصيفات المبتدعة زيفا ونفاقا. خلاصة القول هنا أنّ الدولة هي ملك لنفسها ولشعبها وليس لأي أحد آخر، لا ملكاً ولا حاكماً ولا رئيساً ولا حزبا ولا تياراً. الدولة هي التعبير الحقيقي عن الشعب وهي منزله ومدرسته وجامعته، هي أرضه وسماؤه، وهي مهده ولحده. ويكفي الدولة أن تكون امتداداً حقيقيا لإرادة شعبها، وحصنا منيعا لأبنائها في مواجهة المجهول والمغامرات غير المحسوبة للقادة الذين يتسلمون مقاليد حكمها في فترة زمنية معينة. وبالتالي فإن كل ما يُلصق بالدولة من عبارات من قبيل الرئيس القوي، والحكم القوي والجمهورية القوية والتيار القوي لا يُضيف إليها في الحقيقة شيئاً. فإما الدولة قوية لذاتها ومن ذاتها أو ضعيفة ومستضعفة من الجميع، لا تملك زمام قرارها ومصيرها. إما دولة أو لا دولة، ولا ثالث بينهما. فليست تلك التعبيرات الآنفة الذكر سوى إشارات لا لبس فيها إلى نفوس ضعيفة ترى في ضعفها قوة، وتعتقد خاطئة أن صراخ الجياع من حولها إشادة بها، وأن شتائم المواطنين بحقها هي أوسمة على صدرها. إما أن تكون الدولة أقوى من الجميع ويكون الجميع أقوياء بها، أو لا تكون. صرخة شكسبيرية لا محيد عنها اليوم. صحيح أن العصور والعهود التي تمرُّ على الدولة، قد تختلف وتتفاوت في ما بينها، من ناحية التقدّم والازدهار والرؤيا السياسية العامة الواضحة والمعتدلة، إلا أن قوة كل عهد إنما تقاس بدرجة انصهاره بالدولة ودستورها وكافة مؤسساتها الشرعية. كل مصدر آخر للقوة، سواء أتى من خارج أو من تحالفات داخلية مؤقتة أو قائمة على مصالح آنية ضيقة لجماعات، هو باطل. قوة أي عهد سياسي أن يكون تحت سقف الدولة وأن يرفع سقف هذه الأخيرة فوق رؤوس الجميع من دون استثناء. فكيف يكون قوياً من تكون الدولة في عهده ضعيفة ومشلولة بالكامل؟ وكيف يكون قوياً من لم تسر مفاعيل قوته في شرايين الدولة وفي أطرافها القريبة والبعيدة؟ وكيف يكون قوياً من تشهد الدولة في عهده تفكك أوصالها وتشتت أنظارها وتناقض أهدافها؟ هل الزعيم أو الحاكم هو الذي يدل بشخصه على قوة الدولة أم أن الدولة هي التي تؤشر على قوته التي بلغها فيها من خلال رفع درجة جهوزيتها وتحصينها وتمتين أواصر العيش والمحبة بين شعبها ومكوناتها المختلفة؟ ما لنا والزعيم القوي والرئيس القوي والحزب القوي؟ نحن نريد أن  نسأل اليوم عن الدولة القوية القادرة وعن القضاء القوي والمستقل وعن الحكومة القوية وغير المرتهنة وعن السياسي القوي والشريف؟ هذا ما يعنينا كلبنانيين بتنا جميعا على شفا حفرة من النار على حد ما يقول لنا القادة الأقوياء! هل نقول لكم بئس ما أنتم فيه؟ وتباً للقوة التي هي قوة على الدولة وجرأة على دستورها. هذه همجية وليست قوة أبداً ما تدعونه أيها السادة. القوة هي حق وحقيقة، والقوة هي عدل وحرية، والقوة هي أمن وأمان، والقوة هي مستقبل واضح ومصير غير متفجّر. أين هي قوتكم دلّونا عليها؟ أم تريدوننا أن ندلّكم نحن على همجيتكم؟ تفكيك الدولة، نهب مالها، رهن قرارها، تعطيل مؤسساتها، وإفقار شعبها بعد سرقته في وضح النهار. اسمعوا جيدا واعقلوا قبل فوات الأوان، تعلّموا ولو لمرة معنى الدولة الحقيقي فهو موجود في الكتب وفي ممارسات دول كثيرة تتبجحون في إقامة تحالفات معها أو في طلب مساعدتها. الدولة تنظيم قانوني حضاري بشري وهي الملاذ الآمن للجميع، قلبها الدستور الذي يرسم ويحدد عناصرها: الشعب، الأرض والسيادة. وفي الدولة تقوم أجهزة متنوعة بممارسة السلطة وهي تمارسها في حدود دستور الدولة، فلا تتجاوزه مطلقا، وبالتالي فكل ممارسة خارج الدستور هي عدوان واعتداء غاشم وسيطرة ضد المجتمع بأكمله. فلا ينبغي أن يُسمح لغير الدولة أن تستخدم قوى الدولة فيما يتجاوز وجود الدولة ذاتها. إن ما يجري في لبنان حاليا هي جرائم سياسية موصوفة سوف تؤدي لا سمح الله بحال استمرت في غيّها إلى إلغاء الدولة وإزالتها.