بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 آب 2022 12:00ص لبنان المأزوم والمنهوب.. كان دائناً لفرنسا

قصر الصنوبر.. كان يفترض أن يكون القصر الجمهوري قصر الصنوبر.. كان يفترض أن يكون القصر الجمهوري
حجم الخط
الدول الاستعمارية، على مرِّ التاريخ لا تكتفي باحتلال دول أخرى صغرى أو كبرى، وتحويلها إلى أسواق لمنتجاتها، ولا تكتفي بنهب خيراتها ومواردها وثرواتها، بل كثيراً ما تستلب ثرواتها، وتفرض عليها تمويل حروبها عديداً وكلفة، ففي الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، خاضت بريطانيا وفرنسا حروبهما بتجنيد مئات الآلاف من أبناء شعوب المستعمرات، كما فرضت على هذه المستعمرات خوض حروب التكلفة المادية الباهظة، مستغلة سلطاتها الاستعمارية والانتدابية لتمويل حروبها من الدول التي تسيطر عليها، كحال فرنسا وبريطانيا اللتين فرضتا قوانين تسمح لهما بمراكمة دين على الدول الدائنة وعلى مؤسساتها المالية، وذلك حين «سمحتْ لمصارفِ إصدارِ العملة في هذه الدول، كبنك سوريا ولبنان (وهو مصرفٌ خاصٌّ بإدارةِ فرنسيّ، خلافًا لما قد يوحي به الاسم)، بطباعة العملة المحلّيّة لتمويل نفقات جيوش الحلفاء، مقابلَ سنداتِ خزينةٍ للحكومة المستعمِرة تصدر في عاصمة البلد المستعمِر، كلندن وباريس. ومعنى ذلك أنّ باريس كانت تقترض من بنك سوريا ولبنان عبر إصدار سندات خزينةٍ، مودَعةٍ في حساب البنك في باريس، على أن تكون هذه السنداتُ بمنزلة تغطية (ضمانة) لطباعة العملة المحليّة (الليرة)، التي كانت فرنسا تقترض منها لدفع النفقات المحليّة لجيوشها.
بكلام آخر، كانت باريس هي صاحبةَ القرار في تحديد قيمة دَيْنها وشروطِ هذا الدَّيْن على لبنان وسورية. ومن الطبيعيّ أن يكون لذلك تأثيرٌ في قيمة العملة المحلّيّة للبلديْن، التي كانت حينها عملةً موحَّدةً (الليرة السوريّة اللبنانيّة) مربوطةً بالفرنك الفرنسيّ.
لكنّ القصّة لم تنتهِ هنا. ففي العام ١٩٤٤، ونتيجةً لتدهور سعر صرف الفرنك الفرنسيّ، اضطُرّت فرنسا إلى توقيع اتفاقيّةٍ مع لبنان وسوريا، برعايةٍ بريطانيّة، تَضمن قيمةَ تغطية الليرة السوريّة اللبنانيّة بالجنيه الإسترلينيّ بدلًا من الفرنك الفرنسيّ. ولم يمرّ عامان على الاتفاقيّة حتى تملّصتْ باريس منها، في ظلّ مخاوفَ من انهيارٍ متزايدٍ للفرنك. اعترضتْ بيروت ودمشق، لكنهما فضّلتا التفاوضَ مع باريس بدلًا من اللجوء إلى القضاء الدوليّ في لاهاي للمطالبة بحقوقهما. وقد أسفرت المفاوضات، التي انطلقتْ في العاصمة الفرنسيّة في أول تشرين الأول ١٩٤٧، عن تسويات للدَّيْن مختلفةٍ في الحالتين اللبنانيّة والسوريّة، وذلك نتيجةً لاختلاف الاستراتيجيّة التفاوضيّة لكلٍّ من السلطتين اللبنانيّة والسوريّة، وهذا ما يعكس دورَ الحكومات السياسيّ، بمعزل عن الظروف الاقتصاديّة، في تحصيل الحقوق الماليّة للدول، وبالتالي حماية سيادتها الماليّة، أي استقلال قرارها الاقتصاديّ»(1).
وإذا كان الجميع يعرف مبدئياً أن الدائن يفرض شروطه عادة على المدين، كحال ما يفعله البنك، وصندوق النقد الدوليين، أو ما يسمّى اليوم الدول المانحة، إلا أنه بالنسبة للدين اللبناني والسوري المتوجب على باريس لم يتم وفق هذه القاعدة، فقد حاولت هذه الأخيرة أن تقايض الدين اللبناني بممتلكات فرنسية تخلّت عنها بعد جلاء جيشها عن لبنان في مطلع عام 1946.
لقد خاض لبنان وسورية محادثات شاقة في هذا المجال، حيث كان الوفد اللبناني المفاوض برئاسة حميد فرنجية، والوفد السوري برئاسة خالد العظم، وخلالها برز تباين بين الوفدين، لأن الوفد اللبناني «قبل بمعظم الشروط الفرنسية مع بعض التعديلات، في ما يخصّ المهلَ المطروحةَ ونسبةَ الديْن المضمون. فبموجب الاتفاق، لم يُسمح للبنان بسحب أيٍّ من الأموال المستحقّة له قبل العام ١٩٥٢ إلّا في حال سداد ديونٍ عليه إلى فرنسا؛ كما التزم لبنان بعدم تعديل نظام القطْع اللبنانيّ ونظام تصدير الرساميل إلى فرنسا من دون موافقة الأخيرة.
وفي المقابل، استأنف السوريون المفاوضاتِ بعد انقطاعٍ أدّى إلى اتفاقيّة العام ١٩٤٩، التي استطاعت من خلالها دمشقُ البدءَ بصرف جزءٍ من التغطية فور نفاذ الاتفاق، وبات نظامُ القطْع السوريّ (بما في ذلك تصديرُ الأموال إلى فرنسا) خاضعًا لقرار السلطات السوريّة فقط».
أمّا في ما يخصّ امتيازاتِ الشركات الفرنسيّة، فقد اعترف الطرفان اللبنانيّ والسوريّ بقانونيّتها، لكنّ لبنان تعهّد بتعديلها من خلال الاتفاق مع الشركات المعنيّة، في حين أكّد السوريون أنّ هذه الامتيازات - مع حفظ حقّ أصحابها في الاعتراض القانونيّ - تخضع للتشريع السوريّ.
لم تقتصرْ تبعاتُ هذين الاتفاقيْن المنفصليْن على علاقة لبنان وسوريا بفرنسا، بل تعدّتها إلى تفجّر العلاقة بين بيروت ودمشق حول مستقبليْهما الاقتصاديّ، وأدّت في نهاية المطاف - عبر التفاعل مع عواملَ أخرى - إلى الانفصال الجمركيّ بينهما سنة ١٩٥٠. وقد ساهم مديرُ مصرف لبنان وسوريا حينها، رينيه بوسون، في تأجيج الخلاف، وذلك عبر سياساتٍ نقديّةٍ استنسابيّةٍ تجاه سوريا ولبنان»(2).
وبهذا يؤكد خالد العظم في مذكراته: أن «الدولة التي لا تستطيع الاحتفاظ باستقلالها المالي، لا تستطيع أيضاً الاحتفاظ باستقلالها السياسي»(3).
إلى ذلك، فإن للبنان ديناً إضافياً على باريس لم يتم يوماً مطالبتها به، كحال استغلالها لقصر الصنوبر الذي هو الآن مقر للسفير الفرنسي في لبنان إذ يقول الرئيس بشارة الخوري: «ليت أصدقاءنا الفرنسيين سلموا قصر الصنوبر من تلقاء أنفسهم ليكون مقر الرئاسة، ونحن لم نطالبهم به مراعاة لخاطرهم مع أنهم لم يقطنوه إلا لكونهم أصحاب سلطات الانتداب، والكبيرة والصغيرة في يدهم، ولولا هذه السيطرة لما تمكنوا من استئجاره إلى أجل طويل من شركة البارك، ولم تكن هذه الشركة إلا صاحبة امتياز من بلدية بيروت لاستثماره فحسب، لا يحق لها التأجير، إلاَّ بعد أن تجيز لها البلدية والحكومة ذلك، لكننا غضضنا طرفاً»(4).
لقد كانت الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان في كل الأزمنة، سبّاقة في التساهل مع سيادتها المالية، في حين لا تنفك تتغنّى بمبدأ السيادة وتحتفي به، ولذلك ليس مستغرباً أن يهلل البعض في زمن مضى أن «قوة لبنان في ضعفه» كما هللوا بأن قوة لبنان في دينه.
مصادر:
(1) هشام صفي الدين، مجلة الآداب، 22/4/2018.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) مذكرات خالد العظم - مجلد 2، ص 115.
(4) بشاره الخوري، حقائق لبنانية، جزء 2، ص 232.