تزامن في هذا الزمن الرديء الذي يعيشه لبنان حالياً حدثان بارزان في مسيرته الوطنية: الأولى، الذكرى المئوية لقيام دولة لبنان الكبير التي تولّى الإعلان عنها جنرال فرنسي في الأول من أيلول 1920 بقرار من دولته المنتدبة على لبنان وسوريا اثر تقسيمات الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى للمنطقة العربية - (سايكس بيكو)، وقضى بضم الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان بالرغم من اعتراض غالبية السوريين واللبنانيين على تفكيك وحدة بلاد الشام التي كانت عنصر القوة الأشد في التقدّم الحضاري وامتداداته في كل المنطقة العربية. والثانية، ذكرى إعلان استقلال لبنان عن فرنسا يوم 22 تشرين الثاني 1943 بعد حركة شعبية نضالية توحّد فيها اللبنانيون وانتزعوا استقلالهم بالرغم من التآمر الغربي الصارخ على الأمة العربية ودولها.
ومن سوء الطالع ولأسباب موضوعية وغير موضوعية لم يتسنَّ للشعب اللبناني اليوم أن يحيا هذه الذكرى المئوية الأولى وأن يقف منها موقف الناظر فيها، المُعتبر لنتائجها؛ لما نجحت فيه وما فشلت في بلوغه من أجل تحصين الوطن وبناء الجمهورية القادرة على حماية الجميع بالعدل وتحقيق عوامل توحيدهم في مواجهة المخاطر والمطامع الخارجية. لقد نقلت الدولة المنتدبة سلطات البلاد إلى أصدقائها من كل الطوائف الذين كانوا امتدادا لحكمها وسيطرتها، كما نقلت إلينا دستور جمهوريتها الثالثة بعد ترجمته للعربية لتحافظ بذلك على ولاء اللبنانيين لها من دون أدنى اعتبار لإرادتهم ومن دون استفتائهم على القوانين والأنظمة التي ستحكم مجتمعهم ودولتهم والتي ستعمل كظل دائم لمرحلة الاستعمار. ورغم هذا الجبروت الأجنبي واجه اللبنانيون من خلال رجال استقلال حقيقي مثل بشارة الخوري ورياض الصلح استطاعا أن يوجدا ميثاقاً وطنياً غير مكتوب ارتضاه اللبنانيون عموماً. ثم جاء عهد الرئيس المميّز الجنرال فؤاد شهاب ذات الولاء الوطني الأمثل وباني المؤسسات التي أعطت الدولة هيبتها الحقيقة، حيث شهد الجميع على نظافة ذلك العهد ومنعته الوطنية في مواجهة الفساد والمفسدين والعربية من خلال علاقات غير مسبوقة مع العالم العربي الطامح إلى التحرر والاستقلال والنهوض الوطني، والفضل في ذلك يعود للزعيمين جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة (وحدة مصر وسوريا) والرئيس شهاب. لقد عاش اللبنانيون آنذاك العصر الذهبي والولاء الوطني المنشود ورغد العيش.
لكن ما هو الحال اليوم؟ بعد الانفجار «النووي» في المرفأ في الرابع من آب الماضي الذي كان عنوانا صارخاً على بلوغ الفساد فينا أعلى مراحله بعدما أجهزت الطبقة السياسية على كل مقدّرات البلد وساقته بدم بارد إلى المجهول المخيف، هبّت بعض دول العالم لتقديم يد المساعدة والتخفيف من وقع الكارثة الكبرى على رؤوس اللبنانيين. وفيما سجّل القادة العرب غيابهم المستنكر كالمعتاد، كانت فرنسا سبّاقة في اتخاذ خطوات عملية على الأرض تكرست بمجيء رئيسها وحضوره شخصياً بين الأهالي المنكوبين من الانفجار الجهنّمي، وتحذيره للمسؤولين اللبنانيين من الاستمرار في سياستهم التي باتت تنذر بزوال كيانهم الصغير. لكن دولة اللادولة لا تسمع ولا تعقل ولا تسمح بأي إصلاح حقيقي من شأنه أن يقوّض نفوذها أو يُبعد يدها عن سلطة القرار حتى ولو أدى ذلك إلى ضياع آخر ما يحتفظ به اللبنانيون من أمل. لقد أفقد العهد الحالي وأركانه الشعب اللبناني إمكان دراسة مئويته والاستفادة من تجربتها الطويلة ومن أخطائها، كما أغفل احتفالية الاستقلال الـ77 بمزيد من التخبّط والعشوائية والمواقف اللاوطنية التي تقودنا جميعا نحو الانهيار الشامل، وإن دلّ ذلك على شيء فإنه يدلّ على أن الاستقلال هو أبعد شيء عن نفوس وعقول تلك الطبقة الحاكمة، بل هو السراب الذي وُضعته لعقود أمام أعين اللبنانيين فيما صحراء الأفعال الفاشلة والمجرمة التي تصدر عن قادتها وممثليها، تكبر من حولهم وتحوّل حياتهم إلى قحط وجدب ويأس. هل يعقل أن ينحدر حالنا إلى هذا الحد: من رجال صانعي الأوطان إلى مقامرين هادمي الأوطان؛ ومن رجال باني المؤسسات إلى أزلام وأتباع ومحسوبين مبددي وناهبي المال العام، مال الشعب؟ أليس عيد الاستقلال فرصة لاستلهام معانيه الحقيقية والوقوف عند شروطه والمهام الوطنية التي يرتبها علينا جميعا؟ أم أنه في نظر الكثيرين مجرد مناسبة للشعارات وإطلاق الوعود الفارغة وتحميل المسؤوليات لبعضنا البعض عن خراب البصرة؟ من المستقل في هذه الطبقة التابعة ليرفع رأسه أمام الملأ ويقول: أنا أخطأت بحق الوطن؟ من المستقل فيها ليخرج إلى العلن ويقول بجرأة: أنا أعطّل الدولة؟ من المستقل فيها ليقول بحق: الوطن أولا؟ الاستقلال ليس مناسبة عابرة لوضع أكاليل الزهور فوق أضرحة أبطاله. بل الاستقلال هو ألا يأتي يوم نضع فيه هذه الأكاليل على ضريح الوطن!!