بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تشرين الأول 2022 08:05ص لبنان يهزم «إسرائيل» دبلوماسياً

حجم الخط
بعد حرب 1973 حدثت صدمة داخل الكيان أدّت إلى استقالة رؤساء الأجهزة الأمنيّة الثّلاثة (الموساد، الشاباك، أمان) إضافة إلى رئيسة الوزراء آنذاك «غولدا مائير»، ونُشر تقرير من 1500 صفحة تحت عنوان «التّقصير» لشرح أسباب الهزيمة، وكان تعقيب «موشيه دايان» وزير الحرب حينها أشبه بخارطة طريق لإستراتيجيّة جديدة تقضي باعتماد التّفاوض طويل المدى سبيلًا لتحقيق الأهداف الصّهيونيّة بديلا من الحرب، حيث قال موشي «ثلاثة أيّام غيّرت العقليّة الإسرائيليّة وجعلتنا ننظر الى العرب بطريقة مختلفة».
ومذّاك، لم يخسر الكيان أيّ تفاوض مع العرب بل استطاع كسر الحواجز النّفسيّة مع بعض الحكومات العربيّة من خلال موجة التّطبيع الأخيرة.
ما حدث مع لبنان، من منظور استراتيجي، يعتبر نقطة تحوّل كبرى في مسار العدوّ، فلم يسبق أن تنازل عن 100% من مطالبه، ولم يسبق أن اعترف بـ 100% من مطالب عدوّه، حدث هذا فعلًا بالنّصّ المكتوب الّذي قدّمه «هوكشتاين» قبل أيّام للبنان!
هذه حقيقة تاريخيّة، رغم ذلك، يستطيع أيٌّ منّا أن يسطّر مواقف شعبويّة تحت عناوين وطنيّة وسياديّة، وأن يضع نقاطاً ويرسم خطوطاً بطوليّة على خرائط الانقسام اللّبنانيّ حول مسألة ترسيم الحدود البحريّة.
ولكن، لا بدّ من قراءة موضوعيّة لمسار التّفاوض الّذي امتدّ على مدى اثني عشر عاماً وما رافقه من ضغوط وتحدّيات خارجيّة ومن مناكفات ومزايدات داخليّة.
في البدء تولّى الرّئيس نبيه برّي الدّفّة للوصول إلى إطار يمهّد الأرضيّة لتفاوض يستند إلى عناصر قوّة تمنح الوفد اللّبنانيّ مساحة آمنة في الحركة والمناورة استناداً إلى الاتّفاقات الدّوليّة الخاصّة بالبحار وإلى اتّفاقات وتفاهمات غير مباشرة بين لبنان والكيان الغاصب، لكي لا يقع أحد في شبهة التّطبيع.
على مدى سنوات عشر خاض برّي معارك صامتة مع الوسطاء الأميركيين الّذين حاولوا الضّغط على الرّئيس الخبير بدهاليز التّفاوض وخباياه، وكان كلّما تشدّد برّي في مواقفه ساند بعض الإعلام اللّبنانيّ الجانب الأميركيّ بحملة تشويه وتشويش بهدف الضّغط من أجل التّنازل، وقد وصلت وقاحة بأحد القائمين على إحدى المؤسّسات الإعلاميّة أن يتّصل بالرّئيس برّي ويعتذر له عن الحملة الّتي تشنّها قناته عليه، طالباً منه تفهّم حاجة القناة إلى الدّعم والتّمويل!
ولم تكن العقوبات الّتي فرضها الأميركيّون على المعاون السّياسيّ للرّئيس برّي النّائب علي حسن خليل سوى واحدة من وسائل الضّغط الّتي مارستها إدارة «ترامب» بهدف ليّ ذراع برّي، ولكن دون جدوى.
بالتّزامن مع الحملات الإعلاميّة الدّاخليّة برزت فجأة المطالبة بالخطّ 29 وإيلاء ملفّ التّفاوض إلى رئيس الجمهوريّة استناداً إلى المادّة 52 من الدّستور اللّبنانيّ، واتّهام برّي بالتّنازل لصالح العدوّ باعتماده الخطّ 23 أساساً للتّفاوض، علماً أنّ اتّفاق الإطار لم يأتِ على ذكر الخطوط لا من قريب ولا من بعيد.
يوم 1 تشرين الأوّل 2020 أعلن الرّئيس نبيه برّي نصّ اتّفاق الإطار بمؤتمر صحفيّ، وقرأ بنوده تفصيلاً أمام وسائل الإعلام وسلّم الدّفّة لرئيس الجمهوريّة بعدما، أدى قسطه إلى العلى، كما قال.
باستلام الرّئيس عون ملفّ التّرسيم بدأ مرحلة جديدة شهدت شتّى أنواع «التّخبيص» الإعلاميّ والسّياسيّ والسّياديّ؛ فُتح الهواء لمحلّلين ومستشارين وخبراء، غب الطّلب، ينشرون غسيل المفاوضات على الملأ، يمجّدون بقوّة وصلابة الرّئيس عون في مقابل تنازل وتراخي الرّئيس برّي، وإذ، انقلب السّحر على السّاحر بعدما تخلّى عون، فجأة، عن الخطّ 29 واعتمد الخطّ 23 وبدأ المدّاحون السّابقون لعون يكيلون له التّهم، حدّ الخيانة العظمى..
فاحت روائح صفقات، وسُرّبت معلومات عن لقاءات سرّيّة وأخرى علنيّة تعرض المقايضة بين الخطّ 29 والعقوبات على النّائب جبران باسيل، أخبار كثيرة لم ينفها أحدٌ بل أكّدها «ديفيد شينكر» في إحدى إطلالاته التّلفزيونيّة وكذلك النّائب «سيزار أبي خليل» في لقاء تلفزيونيّ أكّد بطريقة غير مباشرة اللّقاء بين باسيل وهوكشتاين في برلين.
بعد عامين من الأخذ والرّدّ لم يستطع عون وفريقه إضافة حرف واحد إلى اتّفاق الإطار، ولم يحصّلوا للبنان قطرة ماء واحدة:
نام تعديل المرسوم 6433 في جارور فخامة الرّئيس بعدما «وقّعَ نجّار» وطار الخطّ 29 وعدنا إلى الخطّ 23 المعتمد لدى الأمم المتّحدة منذ العام 2011.
فهل خسر لبنان معركته الدّيبلوماسيّة أمام العدوّ الإسرائيليّ؟
الصّراخ في «تل أبيب» يشي بصفعة تلقّاها الكيان المغتصب، وهذه أوّل هزيمة للجيش الصّهيونيّ النّاعم بعد هزيمة جيشه عام 2000 و 2006، وفي عقل العدوّ هذه نكسة كبرى.
وما رفْض «لابيد» لملاحظات لبنان على مسوّدة «هوكشتاين» سوى دليل على أنّ الاتّفاق لصالح لبنان، وبموضوعيّة بسيطة:
لبنان لم يتراجع عن خطّه الرّسمي 23 بل أضيف إليه مخزون حقل «قانا» الممتدّ جنوب الخطّ باتّجاه المياه الفلسطينيّة المحتلّة، ولم يقبل بأيّ ترتيب أمنيّ أو شراكة اقتصاديّة أو حتّى توقيع على ورقة واحدة مع العدوّ، وهذا صمود معنويّ كبير في مقابل موجة التّطبيع الّتي تغزو العرب.
الانتصار السّياسيّ والدّيبلوماسيّ تحقّق، قبلَ العدو بالاتّفاق أم لم يقبل.
إذا قبل فقد ربط ثروته بثروتنا وغازه بغازنا، وأذعن لشروط المقاومة ومعادلاتها.
وإذا رفض فقد انتزع لبنان اعترافاً مكتوباً من الوسيط الأميركيّ، وبرعاية أمميّة، وهذه وثيقة لا يمكن لأحد إنكارها.
وفي كلا الحالين، لولا المقاومة السّياسيّة والعسكريّة لما أخذ لبنان قطرة من مائه!
ولأنّ الإنجاز بالانجاز يذكر، ماذا لو اتّفق اللّبنانيّون على انتخاب رئيس للجمهوريّة ضمن المهلة الدّستوريّة؟!
ألا نعتبر من اتّفاقنا على انجاز التّرسيم ونتّفق فيما بيننا قبل أن يتّفق الخارج علينا!