بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 كانون الثاني 2023 12:00ص لعشر سنوات قادمة!

حجم الخط
 في تصريحه الأخير، سمع اللبنانيون لأول مرة كلاما جدّيا وجديدا عن أزمة إنتخاب رئيس الجمهورية، من الحكيم سمير جعجع، قائد حزب القوات اللبنانية: إنه يفضل أن ينتظر عشر سنوات، على أن يوافق على إنتخاب رئيس للجمهورية، يرشحه «حزب الله».
كلام مباشر، صريح وواضح، بلا تورية، ولا مبالغة، ولا يحتاج إلى معجم لغوي لتفسيره، ولا يحتاج إلى شراح، ولا إلى مفسرين، ولا إلى فقه سياسي، وفقه لغوي، حتى نقف: على مدلوله، على مضمونه، على غايته، على معناه، على مداه، على مرماه، على أبعاده، على حدوده. فكلماته معدودات: دقيقة، ومعبرة، ومجرّبة. وهي تذكّر بالعشر سنوات، التي شهدها اللبنانيون. ومنهم من لا يزال يذكرها. وهي تحفر في ذهنه، وفي أعماقه، وفي نفسه، ذلك الذي مضى وإنقضى عليهم، من فصول الحرب الأهلية اللبنانية، ومن فصول الحرب اللبنانية - الفلسطينية، ومن فصول الحرب الشيعية - الفلسطينية، ومن فصول الحرب السورية - الفلسطينية، ومن فصول الحرب الفلسطينية - الفلسطينية.
ذكرنا الحكيم برقم السنوات العشر في لبنان، ذكرها قبله، الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، حين قال: إن له باعا طولى في الحكم. فهو قد حكم لبنان، زهاء عشر سنوات.
لمما يستفز اللبنانيين اليوم حقيقة، هو التذكير بالرقم عشرة من حوربة السنوات اللبنانية. لأنها كانت مؤلمة على كل الصعد. فقد ذاقوا مرارة التهجير القسري بين المناطق، وذاقوا مرارة حرب الشوارع والقتل على الهوية. ذاقوا تجريف القرى وتجريف الأحياء. وذاقوا أيضا محو الأهل من الذاكرة. إذ تكفلت حوربة السنوات العشر، بقتل الأباء والأمهات، في بيوتهم، حين دهمتهم النيران، وهم لا يزالون في أسرتهم يغطون في النوم، فماتوا على وسائدهم، وداخل داراتهم وحجرهم. وكانت تجرف جثثهم في اليوم التالي، إلى الوديان، وإلى أفواه الوحوش، وإلى المطامر والمقابر الجماعية. وكان يرمى بعضها في الأحراج، وتحت الجسور، وفي البراميل التي يصب فوقها الباطون. وكانت تنقل وتدفن في الأعالي وفي مغر السواحل والخلجان، وفي المناطق المهجورة. فعاش أبناء الأقمطة في لفائفهم بلا أسرة ولا أمهات ولا أهل ولا أحياء ولا قرى، ولا مدينة، ولا حتى سقيفة، فقط تشرّدوا تحت سماء لبنان، وكبروا بلا أهل.. حتى صاروا من الحكايات التي تحكى عن فصول الحرب اللبنانية، التي قال عنها الأحياء بعد الأموات: «تنذكر وما تنعاد.!» فكانت تلك الجملة ولا تزال، تحفر في القلوب، وتحز في النفوس، كلما تذكروا حوربة تلك السنوات العشر المؤلمة، والتي لا تقع تحت وصف، لشدة ألمها في عين واصف، إذا وصف.
كان الحكيم في ذلك الوقت، طالبا في الجامعة الأميركية. فاجأته الحرب، فجاءها على عجل، نسي كراريس الدراسة على الطاولة، وربما نسي أيضا حاسوبه وقلمه ومسطرته وسماعته، وورقته البيضاء، التي لم يستطع أن يدوّن عليها سوى إسمه. لم تمهله الحرب حتى يجمعها، ويجعلها في حقيبته الطالبية. أسرع للهروب من الموت المفاجئ، وللهروب من الحرب المفاجئة. ولم يكن يدري، أنه سينقطع عن الدراسة وهو في أول العمر، وهو في أول الدرب. لم يدر أنه سيصير نجم حروب لسنوات عشر. لم يكن يدري، أنه سيصير قائدا في حرب السنوات العشر.
مضت هذه الحرب المقيتة القاتلة، بعد أن أرخت على الحكيم بكلكلها، حمل منها بالسطل، حمل منها بالرطل، شاب على منابرها، تقدم فيها، حتى عركته وعركها، حتى كللته أخيرا بالشيب، وحتى شيبته، وشاب أيضا منها.
تدرج الحكيم إذا في الحرب، حرب السنوات العشر. كان مثل جواد عنترة، فارس بني عبس: «خاض غمارها. وشرى وباعا». ونراه اليوم في إزمة الإنتخابات الرئاسية، التي استجدت بعد أزمة تأليف الحكومة، وبعد إستقالة الحكومة الحاكمة. نراه، وقد وقف على بابه التوأمان: لبنان والدهر العتيق. لا يزال الحكيم يتذكر على كل مفترق سياسي، يمر به لبنان، حروب السنوات اللبنانية، طيلة أعوامها العشر الطائشة. منذ السبعينيات، حتى التسعينيات، من القرن الماضي. فكما كانت تريشه بسهامها، كان دوما رائشا فيها. يحمل على ظهره جعبة سهامه، وفي يده لواء السلام. دون أن يتخلى يوما عن فكرة الحرب، لا لعشرة أعوام، بل لمئة عام. على قاعدة من القول المأثور عن أبي سفيان: «قاتلناهم والله عشر سنوات على تنزيله. والله لنقاتلنهم مائة عام على تأويله».
كان أبو سفيان رجل حرب. فصارت دارته، دار سلام. ومن دخلها فهو آمن.
فهل لهذا يسعى الحكيم، كما يقول القائلون، في قوله: «لا نسير بمرشحهم، ولو ظل لبنان بلا رئيس، لعشرة أعوام» ( بتصرف).
حقيقة، نكأ الحكيم جرحا قديما، بل نكأ جروحا قديمة. فهل اللبنانيون مستعدون لمجاراته في التجريب بالحروب مجددا، أم أنه سينصرف عنها، للمواجهة السلمية على طريقة غاندي؟.. لا ندري!
لكن المنطقة، لا تنتظر غاندي، يقول القائلون للحكيم. فهي لا تقدس المواجهة السلمية، كما الشعوب الهندية. بل سرعان ما تسير في الحرب، ولو أطلقت الرصاصة الأولى من خارج الصف. وما دام الأمر كذلك، فهل يدرك الحكيم المدى الذي بلغه خطابه الأخير، حين أبلغ القاصي والداني، برفضه «مرشحهم». برفضه «مشروعهم.» برفضه العيش في ظلال الحروب. وكيف سيكون له ذلك، وهو الذي ينتقل مع اللبنانيين، بالنار من زاوية إلى زاوية.
فهل لبنان يستطيع على جوعه، أن يتحمل وطأة حرب جديدة قادمة، لعشر سنوات. أم أن الحكيم لا يحمل كلامه على محمل الجد.. بل غالى فيه المفسرون. وصار بعده اللبنانيون «ينفخون على اللبن، لأن الحليب كاويهم».
قديما علق أبو حيان التوحيدي، حين بلغه، إشهار الشاعر مهيار الفارسي إسلامه، فقال: أنت يا مهيار، إنتقلت بالنار من زاوية إلى زاوية. قالوا له كيف؟. فأجابهم: كان مجوسيا، فأصبح اليوم من الرافضة!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية