بعد
نحو 80 عاما على تكريس المارونية عرفاً لرئاسة الجمهورية، يبدو أن مقولة الرئيس
الماروني القوي سقطت فعليا بعد إخفاق كل التجارب الماضية منذ الاستقلال، أقله، حتى
اليوم.
والمقصود بالرئيس القوى الرئيس الحاصل على شعبية
يعتد بها في الشارع المسيحي، وليس الرئيس الذي قد يستند الى قوة وازنة سواء في
السياسة أو في العسكر أو في الاقتصاد، أو ذلك الحاصل على شرعية خارجية، إقليمية أو
دولية، أو كليهما.
منذ
عهد الرئيس القوي الاول بشارة الخوري، بدا ان وصفة الرئيس القوي ليست سوى فاتحة
أزمات في البلاد، وليس حلول. الرجل الذي حل بطلا للاستقلال على اللبنانيين، سرعان
مع اتسم عهده بالفساد والتآمر على أخصامه وصولا الى السقوط بعد تمديد ولايته ثلاث
سنوات تضاف الى الستة التي منحه اياها الدستور والذي منعه من العودة الا بعد
انتهاء ولاية خلفه، وجاء هذا السقوط عبر انقلاب أبيض العام 1952.
لم
يكن كميل شمعون الذي خلفه أفضل حالا، وعلى رغم ان لبنان شهد ازدهارا اقتصاديا بين
1952 و1958، الا ان شمعون ارتكب خطيئة كبرى في فضيحة تزوير الانتخابات النيابية
للمجيء بمجلس نواب مطواع له مسقطا اخصامه الكبار، ثم انه انخرط في سياسة الاحلاف
وعادى المد الناصري وكان الرئيس الاول الذي يخرج عن مبدأ عدم الاصطفاف الذي اتفق
عليه اللبنانيون ضمن روح الدستور والاستقلال في 1943.
خلف
قائد الجيش فؤاد شهاب شمعون، وهو كان في استطاعته خلافة الخوري قبله لكنه رفض، ثم
انه رفض ايضا التمديد لنفسه مُوليا شارل الحلو في العام 64، في ما اعتبره
استمرارية للشهابية، قبل ان يتمرد الحلو عليه كما على المكتب الثاني قبل ان يسقط
العهد الشهابي مع حلول سليمان فرنجية في الرئاسة العام 1970 متفوقا بصوت واحد على
الياس سركيس، الشهابي، وبعد عامين من هزيمة الشهابية الفعلية في الانتخابات
النيابية عبر الحلف المسيحي الثلاثي: بيار الجميل وكميل شمعون وريمون إدة.
لكن
شهاب والحلو لم يعتبرا في التصنيفات من الرؤساء الاقوياء، لافتقادهما للعصبية المسيحية
المارونية، بينما جاء فرنجية حاصلا على دعم مسيحي كبير وهو اتخذ في ولايته خيارات
عبرت عن عصبية مسيحية منها انخراطه في "الجبهة اللبنانية" ومنها مواجهته
للمقاومة الفلسطينية ومنها ايضا محاولة قمع رئاسة الحكومة السنية..
وكان
من نتيجة الرئاسة القوية (المفترضة) لفرنجية، مسيحيا وأمنيا، ان أسقطته ايضا بعد
تلك الخيارات، وقد اندلعت الحرب الاهلية في عهده لينتهي رئيسا ضعيفا وليستعجل
المسؤولون خلافته من سركيس نفسه وتقيدم موعد انتخابات الرئاسة العام 1976.
سركيس، الرجل النزيه والشهابي المؤسساتي، بدا
دخيلا على السياسة اللبنانية الغارقة في الحروب. وبينما كان من مصلحة البلاد ان
ينتصر في معركته الرئاسية قبلها بست سنوات، لم يكن عصر الحرب الاهلية مؤاتيا له
وسعى الى ادارة الأزمة بدلا من محاولة حلها، ومن نافل القول بأنه لم يكن ذلك
الرئيس القوي بالمفهوم المسيحي.
مع
حلول الرئيس أمين الجميل على سدة الرئاسة العام 82، كان الخيار الافضل للمسيحيين
الذي تيتموا باغتيال شقيقه بشير، وكان الجميل حاصلا على تأييد الفصائل المسيحية
بعد توحيدها بالدم على يد بشير. كان ذلك قبل زمن الانتفاضات وخسارة الجميل معاركه
العسكرية والسياسية وصولا الى طرده من قبل الزعيم الجديد لـ"القوات
اللبنانية" حينها سمير جعجع، الصاعد بقوة مشكلا الزعامة المسيحية الجديدة قبل
صدامه الدموي مع قائد الجيش حينها ميشال عون، الطامح بدوره للرئاسة بكل الوسائل
ومن بينها "حرب التحرير" التي شنها على الجيش السوري وحلفائه، قبل
خسارته المعركة في 13 تشرين الاول 1990..
في
عصر الطائف تقلصت صلاحيات رئيس الجمهورية كثيرا، وإن تعلق الامر احيانا بطبيعة
شخصية الرئيس الذي استمر ممتلكا تواقيع مهمة تجعله قادرا على المناورة كما كانت
الحال مع إميل لحود وميشال عون.
ومنذ
انتخاب الياس الهراوي في 1989، مرورا بقائد الجيش إميل لحود بين 1998 و2007 (مع
التمديد ثلاث سنات)، وصولا الى خلف الاخير في المؤسسة العسكرية وفي الرئاسة ميشال
سليمان (2008 – 2014)، لم يحصل المسيحيون على رئيسهم القوي وهم قبلوا على مضض
بخيار سليمان بعد التغيرات الدراماتيكية مع الانسحاب السوري في 2005 ومن بعده
اتفاق الدوحة 2008 على أثر أحداث أيار من ذاك العام.
مع
الاتفاق على العماد ميشال عون رئيسا في 2016، سرى بين المسيحيين بأنهم أخيرا
توصلوا الى ايصال الرئيس المسيحي الشرعي، لا سيما وان خيار عون جاء بالاتفاق مع
القوة المسيحية الثانية حينذاك "القوات اللبنانية" وسط عرس شعبي.
لكن
اللعنة المارونية بتنازع أقطاب الطائفة دوما عبر التاريخ، جعل من إتفاق معراب محطة
إيجابية فقط ولكن ضمن سيل تاريخي من النزاعات كان أهمها عبر التاريخ بين عون وزعيم
القوات سمير جعجع.
فقد
كتب هذا النزاع التاريخ النهائي للهزيمة المسيحية ومهد الطريق امام إتفاق الطائف
الذي نزع من المنصب المسيحي الرئيسي مخالبه، والذي كان حتى أسوأ من الاتفاق
الثلاثي على المسيحيين في 1986، والذي أسقطه جعجع نفسه حين ثار على زعيم القوات
حينها إيلي حبيقة الذي كان عقد الاتفاق مع السوريين وحلفائهم زعيم حركة
"أمل" نبيه بري وزعيم "الحزب التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط.
بهذا
العرض يتضح أن الرئيس المسيحي "القوي" لم يحل بردا وسلاما على
اللبنانيين، منذ بشارة الخوري وصولا الى ميشال عون. ذلك ان الانقسام الماروني
الماروني الأزلي والصراع على السلطة والحصص في الحكم سيحولون دون حكم هذا الرئيس
القوي.
التسوية تنتج الرئيس
اليوم تحتاج البلاد أكثر ما تحتاج الى تسوية داخلية
حول الرئاسة تنتج رئيسا في إمكانه التواصل مع الجميع، داخليا وخارجيا، خاصة وان
لبنان في مرحلة دقيقة وكارثية وهو في حاجة الى التسوية الخارجية أولا، التي ستصنع
هوية الرئيس بإخراج داخلي.
هذه
الخلاصة هي على ما يبدو ما دفع البطريركية المارونية الى تبني طرح مرشح غير استقطابي، بعد أن نادت في السابق بالرئيس
القوي وحصرت نادي المرشحين لاختيار شخصية مسيحية ذات حيثية.
على
أن التجربة تفيد بأن الرئيس القوي ليس سوى فاتحة للمزيد من الأزمات، وهو ما بات
يعلمه الموارنة قبل غيرهم، وبات الجميع يريد تمرير الزمن برئيس، قد يفتقد اللون
والنكهة المارونية، لكنه قد يساهم في المخرج من الأزمة.
بالنسبة الى القوتين المسيحيتين الرئيسيتين،
سمير جعجع عن "القوات اللبنانية" وجبران باسيل عن "التيار الوطني
الحر"، لن يكون في مقدورهما الوصول. جعجع أحرق مراكبه بتصميم غريب وبات يعتمد
فقط على التزكية الخارجية. لكنه سيحاول ترشيح شخصية من عندياته (تردد هنا إسم
زوجته والنائب ستريدا جعجع)، لكنه لم يتفق حتى اللحظة مع مناوئي "حزب
الله" على شخصية واحدة.
أما
باسيل فقد يلجأ هو الآخر الى تسمية شخصية من قبله، ولا دليل حتى الآن على ما تردد
عن قبوله بزعيم تيار "المردة" سليمان فرنجية بوساطة من الأمين العام
لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، وقد يحاول شراء الوقت ريثما يتخلص من
العقوبات الاميركية ويستعيد شيئا من الثقة المفقودة به من قبل كثيرين في الداخل
والخارج.
أما
فرنجية، صاحب الحظوظ الكبرى، فدون وصوله مصاعب وان كان تخلص من وصمة الشخصية
الضعيفة مسيحيا مع سقوط نظرية الرئيس القوي، وهو لم يحظ حتى اللحظة بموافقة
خارجية، أميركية – خليجية، وهو المصنف على يمين باسيل في محور الممانعة، وان كان
بلبوس غير مستفز.
شخصية وسطية تحاور الخارج
على
ان سقوط نظرية الرئيس القوي ستفيد في تراكم أسماء عديدة تشكل حالة وسطية وتستطيع
محاورة الخارج وكسر المقاطعة عن لبنان، مثل قائد الجيش جوزف عون وزيادر بارود
ومروان شربل ونعمة إفرام وأسماء أخرى..
وذلك
سيكون ضروريا لتقطيع المرحلة الحالية الأسوا في تاريخ لبنان اقتصاديا واجتماعيا،
لا بل الأسوا منذ ما قبل تشكل هذا الكيان المضطرب الذي ولد قيصريا لصالح الأقليات
المسيحية وليكون للموارنة ملجأهم في هذا الشرق القلق، ثم ضُمت إليه طوائف أخرى
لزوم حماية الكيان من مجاعة أخرى على شاكلة تلك التي ضربته قبل تشكله بسنوات
قليلة، وثم لكي توفر له شرعية ما لا تواجه التقدم المسيحي الديموغرافي..
لكن
هذا الكيان شهد لعنة النزاعات المارونية، سيما بعد استقلاله العام 1943، فتآمر
القادة الموارنة على بعضهم البعض في مراحل مختلفة للتاريخ اللبناني، باستثناء بعض
المحطات مثل الحلف الثلاثي العام 1968 ضد الشهابية، أو "الجبهة
اللبنانية" في السبعينيات وسط خطاب تقسيمي سقط مع الهزيمة في الحرب الاهلية
وتسوية الطائف، أو اتفاق معراب في 2016 بين جعجع وعون، لكن سرعان ما استعاد
الموارنة طبيعتهم الانقسامية السلطوية وصراعهم على الرئاسة حتى درجت دعابة في
الماضي بأن كل ماروني هو مرشح طبيعي لرئاسة الجمهورية!
في
الخلاصة فقد أسقطت لعنة النزاعات بين الموارنة نظرية الرئيس القوي، وقد لا يكون
ذلك لغير صالح البلد، ولكنه أيضا لن يمهد لتغيير دراماتيكي للنظام السياسي في
البلاد أو لتطبيق جديّ لاتفاق الطائف، من دون رئيس مسيحي صاحب شرعية واضحة، ناهيك
عن شرعية أخرى متعلقة بالتمثيل السني اليوم، يبحثان في مستقبل نظام الطائف أو صيغة
تعايش جديدة بين الطوائف اللبنانية، ولذلك بحثه الآخر في مرحلة أخرى مغايرة لليوم.