بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 كانون الأول 2022 12:00ص لمصلحة مَن كل هذا التجييش الطائفي والمذهبي المقيت؟

حجم الخط
من أخطرِ ما يُهدِّدُ مَصائرَ الدُّولِ والشُّعوبِ هو التَّوهُ في غَياهِبِ المَجهولِ، والإنحِرافُ عن التَّوجُّهاتِ الصَّحيحَةِ، بسلوكِ مَساراتٍ جانبيَّةٍ مُلتويَةٍ لا خيرَ يُرتَجى منها، أو التَّلهي عن الأمورِ الأساسِيَّةِ بأُمورٍ هامِشِيَّة. ما إن اقتربَ استِحقاقُ الانتِخاباتِ الرِّئاسيَّةِ حتى ارتَفعَ مَنسوبُ حِدَّةِ المواقِفِ الغرائزيَّةِ لدى بعضِ المَسؤولين، وعَلَت نبرةُ الخِطاباتِ الفِئويَّة، وكثرَ استِعمالُ المُصطلحاتِ الطَّائفيَّةِ والمَذهَبِيَّة، وطغى استِعمالُ صِيغٍ كلامٍ مُتقابلَةٍ بالمُباشِرِ حيناً، واستِغيابيَّةٍ إيحائيَّةٍ أحياناً أُخرى، من متكلِّمٍ لمُخاطب، نحن وأنتُم، ومن متكلِّمٍ لمُخاطَبِ غمزاً لمزاً على غائب، نحن وهم؛ وأفظَعُها ما ينطوي على تعابيرَ شَرطِيَّةٍ استِفزازِيَّة تصادُميَّة، إن فعلتم فعلنا، وإن قمتم جلسنا، وإن أخفيتُم أبدينا وإن حَضرتُم غِبنا، وإن ارتضيتم رَفضنا، وإن سكتُّم تكلَّمنا وإن بادرتُم استنكفنا... الخ..
لقد نجَحَ بعضُ المَسؤولين في استِعادَةِ سُلوكِيَّاتٍ الحربِ وآدابِها بعدَ أن أنِفنا سَماعَ تَعابيرِ التَّزمُّتِ والتَّعنصُر، واعتَقدنا لبرهةٍ أننا تَخلَّصنا منها. ولكن سُرعانَ ما حَملوا راياتِ المَذاهِب، وتَمترَسوا خَلفَ صُروحِ الطَّوائفِ ودورِها، واستغلوا منابِرَها لإطلاقِ مواقِفَ شَعبَوِيَّةٍ رنَّانَة، وحاولوا إسدالَ عباءاتِ أصحابِ الغِبطَةِ والسَّماحَةِ على مواقِفِهم لإسباغِها بغَطاءٍ من المَشروعِيَّةِ الدينيَّة - الميثاقِيَّة، ولتصويرِها وكأنها من مُقتضياتِ الدِّفاعِ عن الطَّوائفِ وأتباعِها. هذا في الظَّاهِر، أما حقائقُ الأُمورِ فتدُلُّ على أن وراءَ كُلِّ تلك الانفِعالاتِ مصالِحَ فرديَّة، قائمَةٍ على مَنهَجِيَّةِ ابتِزازٍ مُبتكرَةٍ دَخيلةٍ على الأنماطِ السِّياسيَّةِ المُتعارَفَ عليها؛ أنماطٌ لا دُستورِيَّةٍ ولا أخلاقِيَّةٍ ولا إنسانيَّةٍ وبَعيدَةً كُلَّ البُعدِ عن المُقتَضياتِ الوَطنِيَّةٍ، أسلوبُها المفضَّلُ المُناكفاتُ وتَعطيلُ المؤسَّساتِ الدُّستورِيَّةٍ وشَلِّ مُختلِفِ إداراتِ الدَّولةِ ومؤسَّساتِها العامَّة. كُلُّ ذلك بغَرَضِ الفوزِ بمَكسَبٍ أو مَنصِب، أو التَّحكُّمِ في المَسارِ السِّياسي على المُستوى الوَطني.
إنها لُغَةُ الأنا، أنا أو لا أحد، أنا ومن بعدي الطُّوفانُ، أنا وأنا وأنا... إنها نَزَعاتٌ سُلوكِيَّةٌ نَرجِسِيَّةٌ فَوقِيَّةِ يَحكُمُها الغُرورُ والتَّكبُّرُ والاستِعلاءُ والاستِهتارُ والاستِخفافُ بعقولِ الناسِ واستغباؤهم. يتمحورُ كُلُّ ما فيها ومَراميها حولَ السَّعيٌ للإستِفرادِ بالسُّلطَةِ والتَّفرُّدِ بالقَرارِ السِّياسي، والتَّحكُّمِ بمَصيرِ البلادِ والعِباد، والتَّسلُّطِ على الشَّعب. إنها مُمارساتٌ سِياسِيَّةٌ تقومُ على مُمارساتٍ لم تألفها الشُّعوبُ قط، لا ماضِياً ولا حاضِراً ولن تألفها مُستقبلا، لأنَّها تُخالِفُ كُلَّ المبادئ والأعرافِ السِّياسِيَّة، ولكونها نتاجُ أدبيَّاتٍ مِيليشياويَّةٌ، تَقومُ على الإبتزازِ تَوخِّياً لتَحقيقِ مَنافِعَ شَخصِيَّةٍ أو مَصالِحَ سِياسِيَّةٍ فئويَّة، ولو على حِسابِ الوطنِ ومواطنيه.
لقد تَخلَّى البَعضُ عن واجِبِهُ الدُّستوري كساهِرٍ على احتِرامِ الدُّستور، مؤتمناً خصمهُ السِّياسي على مفاتيحِ الانتِخاباتِ الرِّئاسِيَّة، مُساهِماً في تعطيلِ جَلساتِ مجلِسِ النُّوابِ الانتِخابيَّة، مُبارِكاً منحى رئيسِهِ في تفسيرِ النُّصوصِ الدُّستوريَّة على نحوٍ يقولُ بتعدُّدِ جلساتِ الانتِخابِ، وبوجودِ فواصِلَ تشريعيَّةٍ ما بينِ جلسةٍ وأخرى، أما دوراتُ الاقتراعٍ فأضحى لدينا بدلاً من دوراتِ اقتراعٍ مُتتالية، جلسة اقتراعٍ أولى، وأولى - ثانيَة، وأولى - ثالثة... وأولى - تاسِعَة والحَبلُ على الجَرار، إلى أن تُفصَّلَ معاييرُ الرَّئيسِ بجلسةِ حِوارٍ على قياسِ شَخصٍ بعينِه.
والأغربُ أن الرَّغباتِ التَّعطيليَّةِ لم تتوقَّفُ على تعطيلِ المَجلِسِ النِّيابي باعتِبارِه هيئةً انتِخابيَّة، إنما ثمَّةَ مساعٍ لتعطيلِ كاملٍ للسُّلطةِ التَّنفيذيَّة، من خلالِ التَّرَويجِ لفتاوى تَحظُرُ اجتماعَ مَجلِسِ الوزراءِ لعلَّةِ أن الحُكومَةَ بحُكمِ المُستقيلة وقُبِلت استِقالتُها، ونسوا أو تناسوا أن صلاحِيَّاتِ رئيس الجُمهوريَّةِ في حالاتِ الشُّغورِ تؤولُ وكالةً لمجلِسِ الوزراء لا بالتَّقاسُمِ على جميعِ الوزراء، ولا يُمكنُ للمجلِسِ ممارَستُها إلاَّ بانعِقادِ جَلساتِهِ أُصولاً، وغابَ عنهم أن البلدَ مأزومٌ والشَّعبُ مألومٌ، ولم يعُد قادراً على تَحمُّلِ الأعباء، وأن الوضعَ لا يستدعي فقط انعِقادَ جَلسَةٍ لمَجلِسِ الوزراءِ إنَّما يَتطلَّبُ اعتِبارَ جَلساتِهِ مَفتوحَةً. وكادوا يُصَوِّرونَ أن انعقادَ جَلسةٍ لمَجلِسِ الوزراءِ تُخِلُّ بالتَّوازُناتٍ الطَّائفيَّة، وتُخلخِلُ مُرتكزاتِ النِّظامِ السِّياسي القائم.
لم يَخجلوا بموقِفِهم هذا، ولا بتخاذُلِهم حيالَ إنجازِ الاستِحقاق الرئاسي في أوانه، بل اعتلوا المنصَّاتِ وبادروا إلى تَخوينِ بَعضَهم بَعضا. وكِدنا، لولا عِلمنا بمراميهم وزيفِ مزاعِمِهم، نَظُنُّ أننا في خِضَمِّ حُروبٍ صليبيَّةٍ - هِلاليَّة، يُحاولُ أتباعُ كُلُّ طائفةٍ نَهشَ صلاحِيَّاتِ الطَّوائفِ الأُخرى، وقضمِ حُقوقِها. وكادوا أن ينجحوا في تجهيلِ الرأي العامِّ، وحرفِ انتِباهِه عن جوهرِ المُشكلةِ، والتي يكمنُ حلُّها في قيامِ النُّوابِ بواجِبِهم الدُّستوري المُتمثِّلِ في حُضورِ جلسَةِ انتِخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّةِ والمُشاركةِ في دوراتِ الإقتراعِ لحينَ انتِخابِ الرئيسِ العَتيد، بغضِّ النَّظرِ عن أداءِ مجلسِ الوزراءِ والوزراء.
أيُّها المسؤولون نحنُ المواطنين البُسطاءِ السُّذَّجِ الأبرياء المُسلمين والمسيحيين، نَعلمُ عِلمَ اليَقين أن لا خَوفَ على الوطنِ إلاَّ مِنكم، ولا متطاولٍ على حقوقِ الطَّوائفِ والمذاهبِ سوى أنتم، ولا منتهكٍ للدُّستورِ إلاَّ أشخاصُكم، ولا مُغتصِبٌ لسُلطةٍ دستوريَّةٍ سِواكُم، ولا مُعطِّلٌ للمُؤسَّساتِ الدُّستورِيَّةِ سوى فتاويكُم، ولا مُتطاولٌ على حُقوقِ المواطنين إلاَّ أياديكم، ولا مُسبَّبٌ للإنهيارِ السِّياسي والاقتِصادي والمالي في لبنان سِوى أدائكم. ونعلمُ أيضاً أن لا حِرصَ على الوطنِ لديكم، ولا رحمةَ ولا شفقةَ في قلوبِكُم، ورَجاؤنا فيكم نقتبِسُه من رَجاءِ فأرَ فطنةٍ من هِرَّةِ كذوب شاهدتها يوماً تسقُطُ أرضاً فهرولت نحوها وهي تكررُ عبارةَ «الله الله»، فما كان من الفأرَةِ المِسكينةِ إلاَّ أن أجابتها «كُفِّي مَصائبُكِ عني وأنا بألف خير من الله»، ونحنُ نقولُ لكُم كفوا مَصائبَكم عن هذا الوطن، وسيكون هو والشَّعبُ بألفِ خيرٍ من الله. وإن كنتم غير ميَّالينَ للرأفةِ بالشَّعب فبالله عليكم لا تحجبوا عنه رَحمَةِ الله عزّ وجلّ.
أيُّها المسؤولون اتَّقوا الله في وطنِكم، اتَّقوا الله في شعبِكم، لقد أصبحنا في خِضَمِّ حالةِ انهيارٍ اقتصادي ومالي، وقاب قوسين وأدنى من حالة تفلُّتٍ اجتِماعي وأخلاقي وأمني، وما حَصلَ ويَحصلُ يوميَّاً من جرائمَ تطاولُ الأبرياءَ وتعدِّياتٍ على الأملاكِ العامَّةِ والمُمتلكاتِ الخاصَّةِ إلاَّ مؤشِّرٌ يُنذرُ بمخاطرَ جَسيمة.
وليكُن ِما حَصلَ في محلَّةِ الأشرفيَّة غداةَ فوزِ المُنتخَبِ المَغربي على نظيرهِ البُرتغالي عِبرةً لكم، حيثُ توجَّهَ عددٌ من مُستقلي الدَّرَّاجاتِ النارِيَّةِ إلى مَحلَّةِ الأشرَفِيَّةِ زاعِمينَ أنَّهُم قادِمون من مَحلَّتي الطَّريقِ الجَديدةِ وعائشَة بكَّار للإحتِفالِ بفوزِ المنتخب المَغرِبي، وحَصلَ تَشابُكٌ وعراكٌ بينهم وبينَ بعضٍ من شَبابِ المَحلَّةِ الذين اعتَبروا أن في التَّظاهُرَةِ الاحتِفالِيَّةِ من حيثُ الشَّكلِ والشِّعاراتِ ما يَستفزَّهم. وهنا نسألُ عَمَّا إذا كانت المَزاعِمُ صَحيحَةً لِجِهةِ كونِ القادِمينَ على الدَّراجاتِ هم فعلاً من أهالي الطَّريقِ الجديدَةِ وعائشة بكَّار؟ وهل أن قُدومَهُم كان بدواعي الإحتِفال وبرضى من أهاليهِم؟ ولما لم يحتفلوا في المَناطِقِ التي يُقيمون فيها؟ وإن كانت الجولة الإحتفائيَّة الاستِعراضيَّة قد جاءت عرضيَّةٍ وشاركَ فيها الشُّبانُ بنوايا بريئةٌ، فالخشيةُ واجبةٌ لئلاَّ تكون جِهاتٌ مغرضةٌ فتنويَّةٌ قد غرَّرت بهم ودفعتهم للتَّوجُّه نحو الأشرفيَّة؟ وأنَّا يكون الجوابُ، لا شكَّ في أن هذه الخُزعبَلاتِ مرفوضةٌ من أهالي المُشاركينَ اللذين يُكِنونَ كُلَّ الودِّ لأهالي الأشرفيَّةِ ولسائرِ أحياءِ بيروتِ الأبِيَّة؟
إن ما حصلَ في الأشرَفيَّةِ مرفوضٌ، ومرفوضةٌ أيضاً التَّعليقاتُ الحادَّةُ المُتسرِّعةِ، لكونها مجتمعةً تُذكِّرُنا بمغالاةٍ فريقٍ من اللبنانيين في دفاعِهِ عن القضيَّةِ الفلسطينيَّة إلى حدٍّ دفعَ بالبعضِ الآخرِ ليرى الخلاصَ على أيدِ أعدائهِ وأعداءِ الفلسطينين، وأخشى أن تودي بنا السُّلوكٍيَّاتِ غير المسؤولةِ اليوم إلى مزيدٍ من النُّفورِ وتَنكُّرِ البعضِ لانتِمائهم العَربي، بعد أن كان أجدادُهُم رُوَّادُ الحَركاتِ التَّحرُّريَّةِ العَربيَّة، وأدعو الجميعَ لاستِلهامِ مَشاعِرِ العُروبَةِ مِما هو واردٌ في مقالاتِ ورواياتِ وقصائدِ كل من ميخائل نعيمة وجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي حِفاظاً على ماضينا ومُستقبلنا.