بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 تشرين الأول 2022 12:00ص لمن الغلبة في إيران، للتَّوجُّهات التَّحرّريَّة أم للإيديولوجيا الرّاديكاليَّة؟ 2/2

حجم الخط
استطاعَ النِّظامُ الإيرانيُّ التَّغلغلَ في بعضِ الدُّولِ العربيَّةِ مُستغلاًّ بعضَ المُكوناتِ الشَّعبيَّةِ التي تعتنقُ المذهبَ الشِّيعي الإثني عشري، مُستفيداً من اللَعِبِ على وَتَرِ الانتِماءِ المَذهَبي، ودَغدَغَةِ شُعورِ الفِلسطينيين وشُعوبِ الدُّولِ العَرَبِيَّة بحمِلهِ رايَةَ تَحريرِ القُدسِ الشَّريف، وأغرى بعضِ الجَماعاتِ الفِلسطينِيَّةِ الإسلاميَّةِ بمَدِّها بالأسلِحةِ ودعمِها مادِّيَّاً ولوجِستيَّاً، ما يَسَّرَ له تنصيبَ ذاتِهِ وَصِيَّاً على القَضيَّةِ الفلسطينِيَّة بعد تراجُعِ الاهتمام العربي بها.  
يتميَّزُ نِظامُ الحُكمِ في إيران بمركزيَّةٍ شديدةٍ، لأن مصدَرَ النُّفوذِ مَحصورٌ في المُرشِدِ الأعلى الذي يقفُ خلفَهُ رِجالُ الدِّين المُحافِظِين، ومن ثم المؤسَّساتُ المُنضَوِيَةُ تحت ولايَتِه، مَدعومينَ من الحَرَسِ الثَّوري الذي يُوَفِّرُ الحِمايَةَ لِسُلطَةِ المُرشِدِ ويَضمَنُ له هَيمنتَهُ الدِّينِيَّةَ، مُقابلَ تَظَلَّلِ الحرسِ بالدعمِ المَعنَوِي الذي يُوَفِّرُهُ المُرشِدُ له. وهذا عزَّزَ نفوذُ الحَرَسِ الثَّوري وجعله جهازاً مؤثِّراُ في الحياةِ السِّياسيَّةِ الإيرانيَّة.   
ويأخُذُ بعضُ المُتَفقِّهينَ في الدينِ على الثَّورَةِ الإيرانيَّةِ استِغلالَها لبعضِ المفاهيمِ والألقابِ الدِّينيَّةِ لتَحقيقِ مكاسِبَ سِياسيَّةِ، كما لإعلائها مكانةِ رِجالِ الدينِ في المُجتَمَعِ وإظهارهم وكأنهم معصومون لا يجوزُ انتِقادُهم، وذلك باعتِمادِ مُسمَّياتٍ وألقابٍ مُستوحاةٍ من خلفيَّاتٍ دينيَّةٍ لها مدلولاتُها التي ينبغي أن تبقى بمنأى عن المسائلِ الوَضعِيَّة، من ذلك: تسمياتُ بعضِ التَّنظيماتِ أو الجماعاتِ بمُسمَّياتٍ لها مَدلولاتُها الدِّينِيَّةِ للإستفادَةِ من رَمزيَّتِها، كما هو الحالُ بالنِّسبَةِ لحِزبِ الله، وأنصار الله، وعصائب أهل الحق، وفيلقِ بدر وألويةُ أبو الفضل العبَّاسِ، وفيلقُ وليِّ الأمرِ، كتائب سيد الشهداء وذو الفقار والزَّينبيون، والفاطميون...الخ؛ كما باعتِمادِ ألقابٍ لكِبارِ رِجالِ الدين من ذلك: لقبُ «ثقةُ الإسلامِ» ويطلق على كل من مرَّت عليه في الحوزةِ ستُّ سنواتٍ ولديه معرفةٍ بالكُتُبِ الحوزيَّة؛ ولقبُ «حِجَّةُ الإسلام» ويُطلقُ على من يستطيع التَّدريسِ بعد إتمامِهِ الدِّراسَةِ الحَوزِيَّةِ (لا تقِلُّ عن عشرِ سنوات)؛ لقب «آيةُ الله» ويطلقُ على كُلِّ من أنهى دراستَهُ في الخارِجِ وقامَ بتدريسِ الأصولِ والفقهِ لعِدَّةِ سنوات ووصلَ إلى مَرحلةِ الإجتهاد، كما يُعتبرُ من أصحابِ الرأي  السَّديدِ في الأمور الأصوليَّة والفقهيَّة؛ لقبً «آيةُ الله العُظمى» ويَطلَقُ على من وَصلَ إلى مَرحَلَةِ المَرجَعِيَّةِ لدى الشِّيعَة، ويُعتَبَرُ هذا اللَّقبُ أعلى الألقابِ التي يُمكِنُ أن ينالَها عُلَماءُ الدِّينِ في الحَوزَة؛ ولَقَبُ «روحُ اللهِ» لَقبٌ خُصَّ به الإمام الخُميني، والذي وحدهُ استحوذَ أيضاً على لَقَبِ الإمامِ بعد أن كان مَحصوراً بالأئمةٍ الإثني عشر، كما يبدون تحفُّظاً على تخصيصِ بعضِ رجالِ الدينِ بعباراتِ التَّعظيمِ كقدَّسَ سِرُّهُ الشَّريف، ومدَّ ظِلَّه العالي، ودامت بركاتُه...الخ، ويستثنون من انتقاداتِهم باقي الألقابِ المُعتَمَدَةِ كالمَلاَّ ومَعناهُ المَليءُ بالعِلم، والعَلاَّمَةِ أي صاحِبُ الحِكمَةِ والمَعرِفَةِ العَميقَةِ والشَّامِلةِ في العلومِ الشَّرعِيَّةِ والعَقليَّة. علماً أن كلَّ هذه الألقابِ من قبيلِ الأعرافِ المُجتَمَعِيَّة.  
ويؤكِّدُ بعضُ المُحلِّلينَ أنه ما كان لإيرانَ أن تكونَ لاعِباً إقليميَّاً بارزاً في مِنطَقَةِ الشَّرقِ الأوسَطِ لولا الرِّضى الأميركي على قيامِها بالدَّورِ المُلقى عليها، كشُرطِيٍّ على الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ في المِنطَقَة، واستِغلالِها للتَّناقُضاتِ الدَّولِيَّةِ والإقليمِيَّةِ، وقُصورِ العَرَبِ في الدِّفاعِ عن القَضيَّةِ الفِلسطينِيَّة، إلاَّ أنه فاتَ المَسؤولين في إيران أنَّه لديها ما يَكفي من الثَّغَراتِ التي يُمكِنُ للدُّولِ المُتَضرِّرَةِ من سِياساتِها التَّدَخُّلِيَّةِ النَّفاذَ مِمَّا لدى المُجتَمَعِ الإيراني من تَناقُضاتٍ لإشغالِها داخِلِيَّاً بمِثلِ ما تُشاغِلُهم وتَقويضِ أمنِها الدَّاخلي، والتَّضييقِ عليها اقتِصادِيَّاً وسِياسِيَّاً، تمهيداً لقَلبِ نِظامِ الحُكمِ فيها. 
ويتبيَّنُ من التَّحليلِ الموضوعي للبيئةِ الإيرانيَّةِ أن إيران بلدٌ مُتَنوِّعٌ ديمغرافيَّاً وعِرقِيَّاً وإثنيَّاً ولُغويَّا وطائفيَّاً ومذهبيَّا، بحيث أن الشَّعبَ الإيراني يَتكوَّنُ من مَزيجٍ من أعراقٍ مُختلِفَةٍ، وتَتداخَلُ في جغرافيَّتِهِ مُكوِّناتٌ من دُوَلِ الجِوار. وهو عَمَلِيَّاً يَتَوزَّعُ نِسبِيَّاً وجُغرافِيَّاً على الشَّكل التالي: فُرس 51% ويتركَّزونَ في الوسطِ، أذًريين24% في الشَّمالِ والشِّمالِ الغربي، وجيلاك ومازندران 8% في الشمال الغربي، وكُرد 7% في الغرب، وعَرَب 3% في الجنوبِ والجَنوبِ الغَربي (الأحواز)، ولور 2% في الغرب، وبلوش 2% في الجَنوب والجَنوب الشَّرقي، وتركمان 2% في الشَّمالِ والشَّمالِ الشَّرقي، والباقين يتوزَّعون على أعراقٍ أخرى بما يُعادلُ 1 % من مَجموعِ السُّكان، ويلاحظُ أن مُعظَمَ القَوميَّاتِ غيرِ الفارِسِيَّةِ مُتمَركِزٌ بمُحاذاةِ الحُدودِ مع دُوَلٍ أُخرى يتوافَقُ شَعبُها مَعَهُم إثنيَّاً ولُغَوِيَّاً ومَذهَبِيَّاً، 
كما يُعاني الشَّعبُ الإيراني من تَمايُزٍ عِرقي نتيجَةَ شُعورِ القَومِيَّةِ الفارِسِيَّةِ بالتَّفوُّقِ والهَيمنَةِ على باقي القَومِيَّاتِ التي يَنتابُها شُعورٌ بالتَّهميشِ في ظِلِّ غيابِ إدارَةِ التَّنوُّعِ، بل ثَمَّةَ مَساعٍ رَسمِيَّةٍ دائمَةٍ غيرِ مُعلنَةٍ لتَفريسِ المُجتَمَعِ وكَبحِ تَطلُّعاتِ الأقَلِيَّات، وحِرمانِهِم من خُصوصِيَّاتِهم القومِيَّةِ والثَّقافَيَّة، وذلك على غرارِ ما حصلَ أيام الصَّفويين وبالتَّحديد على يد اسماعيل الصَّفوي (ما بين 1500م و1510م) الذي وحَّدَ بلاد فارس وفرضِ المذهبِ الشِّيعي الإثني عشري على الإيرانيين الذين كانوا بمُعظَمِهِم يَعتنقونَ المَذهَب السُّني لدرءِ تَمدُّدِ النُّفوذِ العثماني داخلَ إيران؛ هذا بالإضافَةِ إلى وجودِ تَمايُزٍ طَبقي من نوعٍ آخرَ مَبنيٍّ على التَّفاوتِ بالثَّرواتِ أو في المَركَزِ الدِّيني وفقاً لدرجةِ القُربِ من مُرشِدِ الثَّورَة. وكُلُّ أشكالِ هذا التَّمايُزِ تَحملُ في طيَّاتِها بُذورَ التَّفرِقَةِ والتَّمييز العُنصري والتَّفتيتِ، فكيفَ الحال إن أضفنا رغبةَ الشَّعبَ الإيراني في التَّحرُّرِ من كُلِّ المَظاهِرِ الدِّينِيَّةِ المُتَشدِّدَةِ شَكلا، وخيرُ دليلٍ على ذلك مُجاهرةُ النِّساءِ برَفضِهن للزَّيِّ المَفروضِ عليهن وللحِجاب على وجهِ الخُصوص. 
والسُّؤالُ الذي يَطرَحُ ذاتَهً اليوم، هل من نصيرٍ للانتِفاضَةِ الشَّعبيَّةِ التَّحرُّريَّةِ في إيران؟ وهل سيتدخل المُجتَمَعِ الدَّولي ولو عن بعد من بابِ الدِّفاعِ عن الحُرِّيَّات، ودَرءاً لما تَقومُ به إيرانُ من تَدخُّلاتٍ في دُولٍ أُخرى؟ وهل تدخُّلَه أضحى واجِباً مُلِحَّاً لا مُجرَّدَ خيار؟ وماسيكون عليه موقفُ الدُّولِ العربيَّةِ التي عانت الأمرَّينَ من تدخَّلاتِ النِّظامِ الإيراني في شؤونها الدَّاخليَّة؟ وهل الانتِفاضةُ القائمةُ حاليَّاً تُشكِّلُ نَواةً صالِحَةً لثَورَةٍ تُحرُّرِ عامَّةَ الشَّعبِ من سطوةِ رجالِ الدينَ وفرضِ أفكارهِم المُتَزَمِّتة؟ وإن كان الأَمرُ كذلكَ، فما هي أُطُرُ وآليَّاتُ التَّدَخُّلاتِ الفُضلى لدَعمِ الانتِفاضةِ وحِمايَةِ الناشِطينَ فيها؟ وهل أن مِثلَ هكذا انتِفاضاتٍ قادِرَةٌ على قَلبَ الأوضاعِ رأساً على عَقَبٍ في دولةٍ تقومُ على إيديولوجيَّةٍ راديكاليَّةٍ مُتشدِّدةٍ دينِيَّاً ومَذهَبِيَّا وعِرقيَّا؟
ليس من شكٍّ أن دَعمَ الحَركاتِ التَّحرُّريَّةِ للتَّخلُّصِ من جورِ وتسلُّطِ الحُكامِ أمراً مَحمودا، إلاَّ أن تَشجيعَهُم ومن ثمَّ التَّخلي عنهم في وسطِ المُعتركِ أشبهُ ما يكونَ بتقديمِهم قرابينَ على مذابحِ الأنظِمة الدكتاتوريَّة، على غِرارِ ما حصلَ في ثوراتِ الرَّبيعِ العربي غيرِ المُكتملةِ في كل من سوريا والعراق وليبيا.