بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تشرين الأول 2022 08:09ص لمن الغلبة في إيران.. للتوجهات التحررية أم للأيديولوجيا الراديكالية؟ (1/2)

حجم الخط
ثمَّةَ أحداثٌ دائرةٌ لا تقلُّ من حيثُ الأهميَّةً في بُعدِها الإقليمي عن الحَربِ الدَّائرةِ في أوكرانيا في بُعدِها الدَّولي، أعني بذلك الانتفاضةُ التَّحرُّريَّةُ في إيران، والتي انطلقت شرارَتُها الأولى بمقتلِ النَّاشِطةِ الإيرانيَّةِ مهسا أميني أثناءَ احتجازها لدى شُرطَةِ الأخلاقِ الإيرانِيَّةِ، لمُخالَفَتِها الزَّي المُوحَّدِ المَفروضِ على نِساءِ الجُمهورِيَّة. والتَّوصيفُ الذي تندرجُ تحتَهُ مُخالَفَتُها هو اصطلاحُ «الحِجابُ السَّيء». يرى البعضُ في هذه المسألةِ حادِثاً عَرَضِيَّاً لا يَنطَوي على أهَمِّيَّةٍ تُذكَر. إلاَّ أن ما تلى الحادِثَ من انتِفاضَةٍ شَعبِيَّةٍ انتَشَرَت كالنَّارِ في الهَشيمِ في مُعظَمِ المُدُنِ والقُرى الإيرانيَّة وعلى امتِدادِ جغرافيا الدَّولَة واستمرارها لغايةِ الآن، حَوَّلَّت هذا الحادِثِ إلى حَدَثٍ على قَدرٍ كَبيرٍ من الأهَمِّيَّةِ، يُنذِرُ بزَعزَعَةِ الاستِقرارِ في إيران، ورُبَّما سَيُشَكِّلُ مُنطلقاً لِثَورَةٍ شَعبِيَّةٍ عارِمَةٍ، قد تَقتَصِرُ نتائجُها على تَصحيحِ ما يُسمى بالثَّورَةِ الإسلامِيَّةِ بالحَدِّ الأدنى، وبحدّهاِ الأقصى قد تؤدي إلى تصدُّعِ النِّظامِ القائمِ وانهيارِه.
رُبَّ قائلٌ يقولُ إنَّها ليست المرَّةُ الأولى التي ينتَفِضُ فيها الشَّعبُ الإيرانيُّ على حُكَّامِه، ويَتطاوَلُ لَفظِيَّاً على رُموزِ ثَورَتِه، وفي كُلِّ مَرَّةِ كان النِّظامُ يَنجَحُ في لجمِ الانتِفاضَاتِ بقَمعِ المُحتجِّين ويَخرُجُ منها مُنتَصِرا؛ هذا القولُ صَحيح لو أن الظُّروفَ السَّائدةَ لا تزالُ على حالِها، إنما ثمَّةَ تحوُّلاتٌ جوهريَّةٌ طرأت مؤخَّراَ على السَّاحاتِ الثلاثَةِ المَحَلِّيَّةِ والإقليميَّةِ والدَّولِيَّة، كُلُّ ذلكَ يوحي بأنَّهُ من غيرِ الصَّوابِ القياسُ على ما آلت إليه الانتفاضاتُ السَّابقة. 
محلِّيَّاً، تُعاني إيران اليومَ من صِراع أجنِحَةٍ خَفي تدورُ رُحاه بينَ أقطابِ النِّظامِ القائم، يتمثل الجناحُ الأول في المُرشِدِ خامنئي ومن خَلفِهِ رجالُ الدين الإصلاحيين، ويدعمًهم الحرسُ الثوري وجهاز الباسيج، أما الثاني فيَتمَثَّلُ في ابن زَعيمِ الثورَةِ ومُطلِقُها أي مُجتبى الخُمَيني، ومن خَلفِهِ ما يُسمَّى بالحَرَسِ القَديم أي رجالُ الدِّين والمَسؤولون المَدنيون الذين أبعدَهُم المُرشِدُ الحالي عن مواقِعِ القَرارِ، أمثالِ ابنَةِ الرَّئيس خاتَمَي وأحمدي نجاة وغيرِهِم، وجِناحٌ ثالثٌ ويَتَمثَّلُ في التَّيارِ التَّغييري المُناهِضِ للنِّظامِ الثَّورِي الحالي ورَكيزَتُهُ مُجاهِدي خَلق (ذاتِ المُيولِ الشُّيوعِيَّة) وأنصارُ شاه إيران السَّابق ومن خلفِهم قوى الاعتدالِ غيرِ المُتشدِّدةِ دينيَّاً والعِلمانِيين. أما إقليميَّاً فإيرانُ بحالةِ حربٍ باردةٍ مع مُعظَمِ الدُّولِ المُجاوِرَةِ لها، ودولِيَّاً مسارُ الحَربِ الأوكرانيَّةِ ليسَ لِصالِحِ حُلفائها.
أعادَتني الانتِفاضةُ الشَّعبِيَّةُ الحالِيَّةُ في إيران إلى شَهر أيلول عام 1977 حيث انطَلَقَت شَرارَةُ ثَورَةٍ شَعبِيَّةٍ فيها، أطاحَت بالنِّظامِ المَلَكي في شباط عام 1978 وحلَّت مَحلَّها الثورَةُ الإسلاميَّةُ؛ ولا أنسى حَماسَتي لها وأنا في رَيعانِ الشَّباب أُسوَةً بمُعظَمِ الشَّبابِ العَربي، الذي رأى فيها ظهيراً داعِماً في وجهِ الكِيانِ الإسرائيلي؛ ولم يُخفِ الزُّعَماءُ العَرَبُ ارتياحَهُم لها فبارَكوها وأعلَنوا تأييدَهم لها، ظَّناً منهم أنَّها أراحَتهُم من نوايا الشَّاهِ «محمد رضا بهلوي» التَّوسُّعيَّة، ولكن سُرعانَ ما تبدَّدَ ارتياحُهم ليحِلَّ مكانَهُ توجُّسٌ من شِعارِ تَصديرِ الثَّورَةِ لانطِواء إيديولوجيَّتِها على نوايا تَدَخُّلِيَّة في شُؤونِ دُوَلِهِم. 
قامت الثَّورةُ الإسلاميَّةُ في إيران على إيديولوجِيَّةٍ مُتشدِّدةٍ بدعمٍ غيرِ مُعلن من المُجتَمَع الغَربِي، على غِرارِ ما قامَت به أميركا في أفغانستان وغيرِها من الدُّولِ المُحيطَةِ بالإتِّحادِ السُّوفييتي، وذلكَ بغَرَضِ الحَدِّ من انتِشارِ العَقيدَةِ الفلسَفِيَّةِ الاشتراكيَّةِ التي تبنتها الثَّورَةُ البلشفيَّةُ، والمُناهِضَةِ للفِكرِ الليبرالي الغربي. وبوصولِ الفِكر الإشتراكي إلى المُجتمعاتِ الغربيَّةِ، كان لا بُدَّ لأجهِزَةِ المُخابراتِ الغربيَّةِ من اعتِمادِ مَنهَجِيَّةٍ إيديولوجِيَّةٍ مُتصَلِّبَة لمُحارَبَةِ الفِكر الشُّيوعي الذي يؤمِنُ بالأُصولِ المادِّيَّةِ للكونِ والبُعدِ عن الروحانِيَّة، فوجَدوا ضالَّتَهُم في الأديانِ السَّماويَّةِ وبالتَّحديدِ الدِّين الإسلامي الذي تَعتَنِقُهُ مُعظمُ شُعوبِ الدُّولِ المُتاخِمَةِ للإتِّحاد السُّوفييتي، ومنها إيرانُ وأفغانستانُ وباكستان وتُركيَّا، هذا بالإضافَةِ إلى دولٍ أُخرى كمِصرَ والمَملكَةِ العَربِيَّةِ السُّعودِيَّةِ لما تُمثِّلانِهِ من ثِقلٍ ديني للشُّعوبِ الإسلامِيَّة، وصوِّرَ الفِكرُ الشُّيوعي على أنه توجهاتٌ إلحاديَّةٌ تَتعارَضُ مع مُرتكزاتِ المُعتقداتِ الدِّينيَّةِ السَّماويَّة، ويُشكِّلُ خَطَراً مُحدِقاً بها.
لم يكتفِ المُجتمعُ الغَربي بإقامةِ نُظُمٍ تقومُ على إيديولوجِيَّاتٍ دينيَّةٍ، وتَشجيعِ أُخرى لتَبَني فِكرٍ دينيٍّ مُتَشَدِّد،  بل سعى إلى إنشاءِ حَركاتٍ إسلامِيَّة راديكالِيَّة، ودَعمِ ما هو موجودٌ منها، وأخَذَت أجهزةُ المخابراتِ الغربيةِ تروجُ  لتلك التنظيماتِ على أنَّها جَماعاتٌ مُجاهِدَةٌ دينيَّاً لتَصدِّيها للأفكارِ الشُّيوعِيَّةِ الإلحادِيَّة، وهذا ما يُفسِّرُ الدَّعمَ اللامحدود الذي حظِيت به تلك الجَماعاتُ المُتشدِّدَةِ في مَعرَضِ مُقاوَمتِها للوجودِ السُّوفييتي في أفغانستان، كما في تَصفيَتها للكَثيرينَ من القِياداتِ الحِزبِيَّةِ الشُّيوعِيَّةِ بالتَّحديد، ومنهم مُجاهِدي خَلقٍ في إيران، وقد انتَهت هذه المُهِمَّةُ بتَفَكُّكِ الاتِّحادِ السُّوفييتي وزَوالِ خَطَرِ تَوَسُّعِهِ فِكريَّاً وسِياسِيَّا.
أطلقَ آيةُ الله الخميني من منفاه في فرنسا مُصطلَحَ «الثَّورَةِ الإسلامِيَّةِ في إيران» كشِعارٍ للانتِفاضَةِ في وجهِ الحُكمِ الملكي بدعمٍ غربي، وأقام مع مجموعةٍ من رجالِ الدينِ المُتشدِّدينَ نِظاماً دينيَّاً بدلاً عنه، يتبنى عَقيدَةِ المَذهَبِ الشِّيعي الإثني عَشَري، وبادَروا إلى التَّخَلُّصِ من رُموزِ الحُكمِ السَّابِقِ، وباقي الجَماعاتِ المُناوئةِ لتَوَجُّهاتِهم، ولم يَسلم منهُم كبارُ القادَةِ العَسكريين والمسؤولين الرَّفيعي المُستوى، وهيَّأوا لذلكَ بأخضاعِهٍم لمُحاكَماتٍ مَيدانِيَّةٍ صُوَرِيَّة، أُعدِمَ بنتيجَتها مِئاتُ الجِنرالاتِ وآلافُ المُفكِّرين والنَّاشِطين الحِزبيين. وبادَروا إلى نشرِ أفكارِهم، المُتشدِّدةِ مَذهَبِيَّا، في أوساطِ الدُّولَ العَربيَّةَ التي تَضُمُّ من بينِ مُكوِّناتِها فئةً تعتَنِقُ المَذهَبِ الشِّيعي الإثني عَشري، وبخاصَّةٍ العِراق ولبنان والبَحرين والكُوَيت والمَملكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعوديَّة؛ هذا بالإضافَةِ إلى استِمالَتِهم لأتباعِ بَعضِ المَذاهِبِ الأُخرى القريبَةِ من المَذهَبِ الجَعفري كالعَلَويين في سورِيا وتُركِيَّا، والاسماعيليين والزَّيديينَ في اليمن. وثمَّةَ مُحللونَ يَقولون بأن أولَ من تنبَّهَ لهم كان الرئيس العراقي صدَّام حسين، الذي كان ردُّهُ صاعِقاً على تَدخُّلاتِ إيران بالشأن الدَّاخلي العِراقي، حيث باغَتَها بحربٍ واسِعةٍ رَدَّاً على تَحرُّشاتِها العَسكَرِيَّةِ الحُدودِيَّةِ المتكررَة وقَصفِها لعَددٍ من القُرى العِراقِيَّةِ المُحاذِيَةِ لحُدودِها. دامت تلك الحَربُ ثماني سَنواتٍ وانتهت بانتِصارِهِ عليها، وهناك من يرى أن صدَّام حسين قد تسرَّعِ بحربِه على إيران، بحيثُ أدت إلى إحداثِ شرخِ عميقٍ بينها وبين بعضِ الأنظمةِ العربيَّةِ والخليجِيَّةِ على وَجهِ التَّحديد.
يأخُذُ البعضُ على النِّظامِ الإيراني اعتِمَادُه مُقارَبَةٍ مُلتبِسةٍ يَصعُبُ فَهمُها في علاقَتِه مع كُلِّ من أميركا وإسرائيل، ففي الوَقتِ الذي  تَبَنَّت إيرانُ شِعارَ المَوتِ لأمريكا تعاونت  في الوقتِ عينِهِ في السِّرِّ مَعَها، وتلقت الأسلِحةَ منها لُزومَ حَربِها مع صدَّام حسين؛ كما رَفَعُت العَلمَ الفِلسطينِيَّ فَوقَ سفارَةِ إسرائيل في طَهران، ولكِنَّها في الوَقتِ عَينِهِ لم تُطلِق صَاروخَاً واحِداً عليها منذ بدايَةِ الثَّورةِ ولغايَةِ اليوم. ويُعزِّزُ هذا البعضُ موقِفَه باستِغلالِ النِّظامِ الإيراني للاجتِياحِ الأميركي للعِراق، لإحكامِ سَيطَرَتِه عليه، ونَهبِ ثَرواتِه، وتَخريبِ النِّظامِ فيه باستِمالَةِ فِئةٍ من شَعبِةِ على حِسابِ تَوجُّهاتِهِم الوَطنِيَّة، والاقتِصاصِ من غَريمِهِ صَدَّام حسين. ويُضيفونَ أن النِّظامَ فَعَلَ الأمرَ ذاتَهُ في اليَمنِ حيثُ قَلَّبَ الزَّيديين على حُكمِ علي عبدُ الله صَالِح، ودَعمَهُم سِياسِيَا وعَسكَرِيَّاً وحَضَّهُم على الإنقِلابِ عليهِ ومن ثمَّ تَصفِيَتِه، وتسبَّبَ بحَربٍ أهلِيَّةٍ مُدَمِّرَةٍ لا زالَت مُستَعِرَةً إلى اليوم، ولم يَكتفِ بهذا القَدرِ بل زَوَّدَ جَماعَةَ الحَوثي بالصَّواريخ البَعيدَةِ المَدى والمُسيَّراتِ وساعَدَهُم فنِّيَّاً على إطلاقِها على مُنشآتٍ حَيَوِيَّةٍ داخِلَ المَملكَةِ العَربِيَّةِ السُّعودِيَّة من مَطاراتٍ ومَحطاتِ تَكريرٍ للنَّفطِ والمياهِ وغير ذلك، وهدَّدَ الإماراتِ العرَبيَّةَ المُتَّحِدَةِ بمِثلِ ذلك. ويعزِّز هذا البعضُ مقولته بما يبوحُ به كبار من المسؤولين الأميركيين السَّابقين بين فينة وأخرى، وأيضاً بامتناعِ أميركا عن إدراجِ الحوثيين بين التَّنظِماتتِ الإرهابيَّةِ على الرَّغمِ من أن أنشِطتَهم التَّخريبيَّة تندرِجُ ضمن توصيفِ الأعمالِ الإرهابيَّة.
ويأخُذُ فريقٌ آخرٌ على النِّظامِ الإيراني سَعيَه إلى استِمالَةِ الشُّعوبِ العَرَبِيَّةِ المُعادِيَةِ لإسرائيل والمُناهِضَةِ لأميركا الدَّاعِمَةِ لها، وتقليبِها على أنظِمَةِ الحُكمِ القائمَةِ في بُلدانِهم وحُكَّامِها؛ وإنشاءَه لتَنظيماتٍ دينِيَّةٍ مُتَشدِّدةٍ مَذهَبِيَّاً في مُعظَمِ البُلدانِ العَرَبِيَّةِ التي فيها مواطنون يَعتَنِقونَ المَذهَبَ الشِّيعي الإثني عشري مثل حزبُ الله في لبنان، والحَشدِ الشَّعبي في العِراق والحَوثيين في اليمن...الخ؛ وأنه عَمِلَ على تَسليحِها وتدريبِها كجُيوشٍ رَديفَةٍ للجُيوشِ الرَّسمِيَّةِ على غِرارِ الحَرَسِ الثَّوري، واعتمدَها كأدواتٍ سياسِيَّةٍ يُحرِّكُها ساعَةَ يَشاءُ في وَجهِ النُّظُمِ القائمَةِ في دوَلِها لإضعافِ سُلُطاتِ الحُكمِ فيها، كما اعتَمدَها كأذرِعٍ عَسكَرِيَّةٍ تعملُ بتَوجيهاتِ من مُرشِدِها الأعلى ومُسخَّرةٌ لما يخدمُ الثورَةِ الإيرانيَّة.
(يتبع)