بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 كانون الأول 2022 12:00ص ما بين التوقيف الاحتياطي والتوقيف الاعتباطي.. ثمَّة كرامات تُهان وأبرياء يُظلمون

حجم الخط
تضُجُ وسائلُ الإعلامِ والفضائيَّاتُ على وجهِ التَّحديد بما يُسمُّونه مُستجداتِ التَّحقيقاتِ والتَّوقيفاتِ في ملفين قضائيين ماليين مُستجِدَّين هما: ملف التَّحقيقِ في هيئة إدارَةِ السَّيرِ والآليَّاتِ ومَصلَحَةِ تَسجيلِ الآلِيَّاتِ في الدِّكوانَةِ والأوزاعي، ومَلفِّ السِّجلِ العِقاري في بعبدا. بجرائمَ إثراء غير مَشروع ورشاوى وإخلالٍ بواجِباتِ الوَظيفية، وعلى الرَّغمِ من أن روائحَ الفَسادِ والخللِ الوظيفي تفوحُ منذ سنواتٍ ماضيةٍ في هذه الإداراتِ والمؤسَّساتِ وغيرها من الإداراتِ الرَّسميَّةِ، إلاَّ أن فتحَ هذين الملفين في هذا التَّوقيتِ بالذَّاتِ لا يُعزى لصحوةٍ قضائيَّةٍ إصلاحيَّة، إنما يبدو أنه جاءَ متأخِّراً وعلى أثرِ خلافاتٍ سِياسِيَّة، أولاها الخلافٍ الذي حصلَ ما بين النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان وأحدِ أعضاءِ المجلِسِ النِّيابي السَّابق منذ قرابةِ السَّنتين، أما الثاني فعلى أثرِ ما أثيرَ حولَ نقلِ مُلكيَّةِ عَشَراتِ العِقاراتِ الخاصَّةِ بأحَدِ الزُّعَماءِ النَّافِذين لِصالِحِ إلى وَرَثتِه في يومٍ واحِد، رغمَ وجودِ مِئاتِ الأَشخاصِ المُنتظرين لدَورِهِم لإنجازِ مٌعامَلاتِهِم العِقارِيَّة، وذلك قُبيلَ رَفعِ الرُّسومِ الخاصَّةِ بنَقلِ مُلكِيَّةِ العِقاراتِ وتَسجيلِها باسم المالكين الجُدُدِ في السِّجلِّ العِقاري.
الغرابةُ في الأمرِ لا تنطوي على فَتحِ هذين الملفين في هذا التَّوقيتِ بالذَّاتِ، ولا في عدمِ إقدامِ الإداراتِ المَعنيَّة والمسؤولين عنها، على وَجهِ التَّحديد، بإجراءِ تَحقيقاتٍ إداريَّةِ على ضوءِ ما كان يَصِلُ إلى مسامِعهم من ارتكاباتٍ إداريَّةٍ وماليَّة، ولا في التَّمييزِ بين المواطنين ما بين نافِذٍ وغَيرِ نافِذ، إنَّما الغَرابَةُ الأساسِيَّةُ تكمُنُ في الاتِّهاماتِ الجَماعِيَّةِ بجرائمَ مُشينةٍ كالإثراءِ غيرِ المَشروعِ، والرَّشوَةِ والإخلالِ بواجِباتِ الوَظيفةِ وغيرِ ذلك، كما في التَّوقيفاتِ التي طالت غالبيَّةَ، إن لم نقل جميع، العاملين في تلك الإداراتِ الثلاثةِ، ما أدى لشَلِّ العملِ فيها بالكامل، ولم يَنجُ من التَّوقيفِ سِوى من تَسلَّحَ بمَعذِرَةٍ طُبيَّةٍ أو تَوارَى عن الأنظار. عِلماً أنه في حال ثبُتَ أن الفسادَ قدَّ عمّ في بعضِ الإداراتِ والمؤسَّساتِ العامَّةِ إلى حد طاولَ جميعَ العاملين فيها، فإن ذلك يُشيرُ إلى أن الخَلَلَ يكمنُ في المناصِبِ الرِّيادِيَّةِ، وينبغي أن يُسألَ عنه في المَقامِ الأوَّلِ الرُّؤساءُ التَّسلسُلِيونَ المُتعاقبونَ لتَقصيرِهِم في واجِبِهم الرِّقابي، أي رِقابةِ الرئيسِ على أعمالِ المرؤوس.
وبحسبِ ما يُستشفُّ مما تتداولهُ وسائلُ الإعلامَ أن التَّوقيفاتِ والإدعاءَ تمَّت بناءً لشُبُهاتٍ ومُعطياتٍ تمحورت بالإجمالِ حَولَ شُبُهَاتٍ بسُلوكِيَّاتِ فساد (رشوة واستغلال الوظيفة)، ولم تُعَر أهميَّةٌ فيها لمدى خُطورَةِ الدَّورِ الجُرمي المَنسوبِ لكُلٍّ من المُشتبهِ فيهم أو المَوقوفين، أي باعتِمادِ توصيفٍ جُرمي على ضَوءِ ما هو منُسوبٌ لِكُلٍّ منهم  من سُلوكٍ مُجرَّم؛ وعلى الرَّغمِ من اقتناعنا بمَناقِبيَّةِ القُضاةِ الذين وضعوا يَدَهُم على المَلَف إلاَّ أن التَّشدُّدَ بالتَّوقيفِ يَنطوي على مخاطِرَ جمَّة، بحيثُ أن التَّوقيفَ يُشوِّهُ سِمعةَ الموقوفِ بغَضِّ النَّظرِ عما إذا كان ضالعاً فِعلاً بعملٍ جُرمي أم لا. وعليهِ نَسألُ من يُعيدُ الاعتِبارَ المعنوي للفردِ فيما لو ثبُتت براءتُهُ في ما بعد؟ هذا عَدا عن أن التَّوقيفَ بِحَدِّ ذاتِه يَنطوي على انتِهاكٍ لحُريَّاتِ المَوقوفين الذين لا تَستوجِبُ مُقتضياتُ التَّحقيقِ توقيفَهم، إن كان لِعَدمِ خُطورَتِهم على المُستوى الشَّخصي، أو لعدَمِ خطورَةِ الأفعالِ المَنسوبَةِ إليهم، أو لعدمِ قُدرَتِهِم على إخفاءِ مَعالِم الجَرائمِ المُدعى بها، وبخاصَّةٍ إن ابدوا استعداداً للإلتِزامِ بالمُثولِ عِندَ اللُّزوم امامَ المَرجَعِ القضائي المُختَصِّ.
للأسفِ لم نتعلَّمَ من أخطاءِ الماضي والتي دفعَ ويدفعُ ثمنَها أشخاصٌ أبرياءٌ أو مُقترفي أخطاء لا تستوجِبُ كُلَّ ما نزلَ بهم من عِقابٍ قبل إحالتِهم أمام المَحاكِم، ولسنا بحاجَةٍ للغورِ في الماضي البعيد وللتذكيرِ بِما  عفا عليه الزَّمن، إذ لا نلبسَ كُلَّ يومٍ نسمعُ مُطالباتِ ذوي الموقوفين في جريمةِ انفجارِ المرفأ، وكُلُّنا يعرفُ أن المُجرمين الحقيقيين إما مُجَهَّلين وإما غَيرِ مَوقوفين، ومثلُهم ما يُسمَّى بالموقوفين الإسلاميين الذين أوقِفوا وَفقَ مَفهومِ الجاروفَةِ أي من دون وجودِ أدِلَّةٍ تُثبِتُ ضُلوعَهُم بجريمةٍ بعينِها، وقد مضى على توقيفِهم عشراتِ السنوات ولم يُحالوا بعدُ أمام المَحاكِم، في الوقتِ الذي حوكِم من هو أخطَرُ منهُم وأُخلي سَبيلُهم، ومنهم من ضُبِطَ مُتلبِّساً بنقلِ عَشراتِ العُبواتِ الناسِفَةِ والتي كان بعضها مُعدَّاً للتَّفجيرِ في دورِ عبادةٍ مُكتظَّةٍ بالمُصَلين والبعضُ الآخرُ منها لاغتيالِ شَخصِيَّاتِ مَعروفَة.
تدفعُنا بعضُ المُقارباتِ القضائيَّةِ المُلتبسةِ والمبنيَّةِ على معاييرَ مختلِفةٍ، والمُتشدِّدةِ في وجهِ الضُّعفاءِ والمُتعاميَةِ عن ارتكاباتِ كِبارِ النافِذين، إلى التَّطرُّقِ إلى مَسألَتي الاحتجازِ على ذمَّةِ التَّحقيق والتَّوقيفِ الاحتياطي، واللذانِ تغيَّ المُشرِّعُ منهما ضمان حِسن سيرِ المُلاحَقاتِ الجزائيَّةِ والحؤولِ دونَ إفلاتِ المُجرمين من الملاحقةِ والعِقاب، ونظراً لكونِ هاذين الإجرائين يتعارضا مع مبدأ احترامِ حقوقِ الإنسان فقد أحيطَ اللجوءُ إلى أي منهما بضَوابِطَ من شأن الإلتزامِ بروحِيَّتِها ضمان عدمُ التَّعرُّضِ للأفرادِ باتخاذِ قراراتِ اعتباطيَّةٍ تقضي باحتجازِهم أو توقيفِهم من دون موجِب، وهذا ما يدعونا للعودةِ إلى ما نصَّت عليه المواثيقُ الدَّوليَّةُ والدَّساتيرُ والقوانين الدَّاخليَّة النافِذة.
لقد أكدَت المواثيق الدَّوليَّةُ وفي طليعتها الإعلان العالمي لحقوق الانسان على وجوبِ كفالةِ الدُّولِ للحُرِّيَّاتِ الشَّخصِيَّة، وعدم جواز التَّعرُّضِ غيرِ المُحِقِّ لأيِّ إنسان حتى في معرضِ المُلاحقاتِ الجزائيَّة، وهذا ما يُستشفُّ من نص البند الأولِ من المادَّةِ (11) من الإعلان المنوه عنه، والذي أكَّدَ على وجوبِ اعتِبارِ كُل شخص مُتَّهم بجريمة بريئًا إلى أن يثبت ارتكابُه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميعُ الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه؛ كذلك فعلَ المُشرِّعُ الدستوري اللبناني إذ نصَّت المادَّةُ الثامنة على «أن الحريَّةَ الشَّخصيَّةَ مصونة وفي حمى القانون، وأنه لا يُمكِنُ أن يُقبَضَ على أحدٍ أو يُحبَسَ أو يوقَفَ إلاَّ وِفاقاً لأحكام القانون...» ونستنتجُ من ذلك أن الأصلَ هو عدمُ جَوازِ التَّعرُّضِ لِحُرِّيَّةِ الإنسان إلاَّ كاستثناءٍ تَقتَضِيهِ الضَّروراتُ على أن يَحصَل ذلكَ وفقاً للقانون. 
وفي هذا الإطارِ أجاز قانونُ أُصولِ المُحاكماتِ الجَزائيَّةِ للنِّيابَةِ العامَّةِ المختَصَّة في حالَةِ الجِناياتِ المَشهودَةِ أن تأمرَ بالقَبضِ على شَخصٍ تَتَوَفَّرُ فيه شُبهاتٌ قَوِيَّةٌ بمُساهَمَتِهِ في الجريمَة، وأن تستجوبه بنفسها ولها أن تُكلِّفَ الضَّابِطَةَ العَدلِيَّةَ بذلك، وأن تُبقيه مُحتجزاً لمدَّة لا تزيد عن  48 ساعة، وإن رأى النائبُ العامُّ أن التَّحقيق يُحتِّمُ مهلةً إضافِيَّةً فيُقَرِّرُ تَمديدَ احتجازِهِ مدَّةً مماثلة، وقد أجازَ للمُستجوَبِ الاستِعانَةَ بمُحامي لحُضورِ استِجوابِه. أمَّا إذا كانت الضَّابطةُ العدليَّةُ هي من يتولى إجراءاتُ التَّحقيقِ الأولي بإشرافِ النِّيابَةِ العامَّةِ فأجازت المادَّة 42 من القانون ذاته  تَمديدُ مُهلَةِ الاحتِجازِ لأكثَرِ من 48 ساعةٍ على ألَّا تَتعدَّى الأربعَةِ أيام، ولكن بقرارٍ خَطيٍّ ومُعلَّل، وبعد اطلاعِ النيابةِ العامَّةِ على الملف، والتَّثبُّتِ من مُبرِّراتِ تمديد الاحتجاز.
ومن هذا المُنطلَقِ أجاز قانونُ أصولِ المُحاكماتِ الجزائيَّةِ لقاضي التَّحقيقِ أن يُصدِرَ قَراراً بتوقيفِ المُدَّعى عليه بعد استِطلاعِ رأي النِّيابَةِ العامَّةِ في حالِ كان الجُرمُ المُسنَدُ إليه مُعاقَباً عليه بالحَبسِ أكثر من سنة، أو أن يكون قد حُكِمَ عليه قبلا بعُقوبَةٍ جِنائيَّةٍ أو بالحَبسِ أكثرَ من ثلاثَةِ أشهُرٍ دون وَقفِ التَّنفيذ. ولكنه اشترطَ أيضاً بأن يكون قرارُ التَّوقيفِ مُعلَّلاً وأن يُبَيَّنَ فيه القاضي أسبابَ الواقِعيَّةِ والمادِّيَّةِ التي اعتَمدَها لإصدارِ قراره هذا، وأن يكون التَّوقيفُ الاحتياطي هو الوسيلةُ الوحيدةُ لِمَنعِ المُدَّعى عليه من الفَرارِ أو تَجنيبِ النِّظامِ العامِّ أيِّ خَلَلٍ ناجِمٍ عن الجَريمة، أو للمُحافَظَةِ على أدِلَّةِ الاثباتِ أو المَعالِمِ المادِّيَّةِ للجَريمَةِ أو للحيلولَةِ دون مُمارَسَةِ الإكراهِ على الشُّهودِ أو على المُجنى عليهم أو لِمنعِ المُدعى عليه من اجراءِ أيِّ اتِّصالٍ بأيٍّ من المُساهِمينَ بالجريمة، أو أن يكون الغَرَضُ من التَّوقيفِ حِمايَةِ المُدعى عليه نفسِهِ أو وَضعِ حَدٍّ لمَفعولِ الجَريمَةِ أو الرَّغبَةِ في اتِّقاءِ تَجَدُّدِها. 
والواقِعُ أن احتِجازَ الأشخاصِ أو توقيفِهِم خِلالَ إجراءاتِ التَّحقيقِ السَّابِقَةِ للمُحاكَمَةِ هو تَدبيرُ استِثنائي زَجري مانعٌ للحُريَّةِ ويَنطوي على مَساسٍ بحُقوقِ الأفرادِ وحُريَّاتِهِم الشَّخصِيَّة، لذا يَتَوَجَّبُ ألاَّ يتِمَ اللُّجوءِ إليه إلاَّ في الحالاتِ الحَصرِيَّةِ التي أشرنا إليها سابِقاً، وأهمُّها ضَمانُ حُضورِ المُشتبَهِ فيه أو المُتَّهِم ما تبقى من إجراءاتِ المُلاحَقَةِ التي تَستوجِبُ حُضورَهُ بما في ذلك جَلساتُ المُحاكَمَة. هذا عَدا عن أن القَضايا التي تَنطوي على جَرائمَ مُتلازِمَةٍ غالِباً ما لا تكونُ كُلُّها بذاتِ الخُطورَةِ الجُرمِيَّةِ أو التَّصنيفِ ما بين جِنايَةٍ وجِنحَةٍ أو مُخالَفَة، كذلك تَختلِفُ خُطورَةُ المُساهمين في الجَريمَةِ  الواحِدَةِ من حيثِ دورِ كُلٍّ منهم في إظهارِ الجَريمَةِ إلى حَيِّزِ الوجود، كما من حيثُ دَوافِعِه. وأخلُصُ من كُلِّ ذلك للقَولِ أنَّه حتى في القَضِيَّةِ الواحِدةِ ينبغي ألاَّ يُعامَلَ المُساهِمونَ في الجَريمَةِ في مِعيارٍ واحِدٍ من دونِ الأَخذِ بعَينِ الاعتبارِ للظُّروفِ الموضوعِيَّةِ والشَّخصيَّةِ التي أحاطَت بكُلٍّ منهم عند مُساهَمتِهِ في الجَريمَة، فكيفَ الحالُ بمن لم ينخرطوا بأي سلوكٍ مُجرَّم.
إن العدالةَ الجنائيَّةَ لا تقومُ فقط على الاقتِصاصِ من الضُعفاءِ حتى وإن أخطأوا، وكيفَ الحالُ إن وجِدَ بينهم من لم يُخطئ ولكن شاءت الظُّروفُ أن يكون في بيئةٍ حاضِنةٍ للفَسادِ وبينَ فاسِدين؟ وبالتالي نرى أن تبني منحى تَشدُّدي تجاهَ هؤلاءِ وهم في الغالب من موظَّفي الرُّتبِ الدُّنيا، والمُياومين، وإصدارُ قراراتٍ قاسِيَةٍ بحَقِّهِم من دونِ الوقوفِ على الصَّلاحِيَّاتِ المُناطَةِ بكُلِّ منهم، والتَّحقُّقِ من كونِ السُّلوكِياتِ المنسوبةِ لأي منهم مُجرَّمَةً أم لا، وكذلك من دون التَّحقُّقِ من مدى مِصداقِيَّةِ الافتِراءاتِ المُساقَةِ ضُدَّ كل منهم أيضاً؛ وبالتالي من غيرِ المقبولِ أخذُهُم بالجُملَةِ ونَعتَهُم بالفاسِدين والمُرتَشين، واتِّهامهم بالإثراءِ غير المشروعِ والرشوة وإساءة استعمال السُّلطةِ على غِرارِ كِبارِ المُجرمين، لأن هذا المنحى يَنطوي على جَورٍ ومَظالِمَ فظيعَةٍ ولو عن غير قصد، ولكنها تبقى أشدُّ خُطورةٍ من الجَريمَةِ أو الجرائمِ التي هم مُلاحَقينَ بصَدَدِها. وكيفَ الحالُ إذا كانت الشُّبُهاتُ عامَّةً وغيرِ مَبنيَّةٍ على أدِلَّةٍ حِسِّيَّةٍ دامِغَةٍ كما هو الحالُ بالنِّسبَةِ لعَدَدٍ من المُلاحَقينَ في قَضِيَّتي النافِعَةِ وعِقارِيَّةِ بعبدا.
وإن كان البعضُ يرى أن في التَّشدُّدَ باحتِجازِ الأشخاصِ المُشتبهِ فيهم أو المَشكو مِنهُم أو في التَّوقيفِ الإحتِياطي بحَقِّ المُدَّعى عليهم جدِّيَّةً في مكافحةِ الجريمةِ ومحاسبةِ المُجرمين، فإن هذا المنحى يُجافي مقاصِدَ العدالةِ، وينطوي على إغفالٍ لما قد يتسَبَّبُ به هذا المَنهَجُ من ظُلمِ وعَدَمِ مُساواةٍ، هذا عدى انطوائهِ على ضَعفٍ وعدمِ قُدرَةٍ على تَحمُّلِ مسؤوليَّةِ في الوقوفِ على مُستوى الخُطورَةِ الجُرميَّةِ بين المُجرمينَ ودورِ كُلٍّ منهم في اقترافِ الجريمة، والذي يتطلَّبُ موازنةً ما بين مقتضياتِ توفيرِ حسن سير العدالَةِ والحُريَّاتِ الشَّخصِيَّة. وخاصَّةً في الحالاتِ التي يبقى فيها بعضُ النَّافذينَ بمنأى عن المُلاحَقَة، مُتمَترسينَ خلف مناصِبهم السِّياسِيَّةِ ومراكزِهمِ الإداريَّةِ الرَّفيعَةِ وبحَصاناتِهم أو مُتستِّرينَ ببزَّاتِهِم وياقاتِها البيضاءَ والحَمراءَ. وحبَّذا لو نرى هذا التَّشدُّدُ يُمارسُ حِيالَ أولئكَ الضَّالِعين باقترافِ أفظعِ الجرائمِ وأخطرِها على الإطلاق.
للأسف إن طَمسَ الجَرائمِ الخَطِرَةِ وإخفاءِ معالِمِها وأدِلَّتِها وتَجهيلِ الضَّالِعين فيها ومن يقِفُ خَلفهم، كما أن تفلُّتَ المُجرمين الخطرين من المُلاحقةِ والعِقاب هو المنهجُ الغالِبُ على سَيرِ العَدالَةِ في لُبنان. وخيرُ شاهِدٍ على ما أقوله تغييبُ العدالةِ في العديدِ من الجرائمِ الهامَّةِ وأكتفي بالإشارةِ إلى بعضِها، اغتيال كُلٍّ من المغفور لهم رشيد كرامي ورفيق الحرير والمفتي حسن خالد، وبيار الجميل وجورج حاوي ووسام عيد ووسام الحسن ومحمد شطح وجبران التَّويني، وانتهاء بلُقمانِ سليم وغيرِهم، ولا يَغيبُ عن ذاكِرتِنا تَفجيرُ مَرفأ بيروت الذي راحَ ضَحِيَّتَهُ مئاتُ القَتلى وآلافُ الجَرحى وأدى إلى تدميرِ ما يقاربِ نصفِ العاصِمَةِ بيروت، وثمَّةَ جرائمُ أخرى واقِعةٌ على الأموالِ لا تقلِّ من حيثُ مخاطِرِها ومَضارِّها عمَّا ذكرناه من جرائمَ واقِعَةٍ على الأشخاص، منها اختِلاساتُ بنك المدينة، وتزويرُ الطَّوابِعِ الماليَّةِ، وغيرها من جرائمِ الاحتيالِ التي طاولت مئات المُواطِنين، ولكن أخطرُها تمثَّلَ في التَّعدي على الأملاكِ العامَّةِ البحريَّةِ والبريَّة والمَشاعات، ونَهبِ المالِ العامِّ وأموالِ المودعين في مختلفِ المصارفِ اللبنانيَّةِ، والتي أضحت في حالةِ إفلاسٍ غير مُعلنة، وتهريبِ النافذين من مسؤولين سياسيين وكِبارِ الموظَّفينَ ومُساهمي المَصارِفِ لأموالِهم إلى خارجِ لبنان، ما أدى إلى انهيار قيمةِ العِملةِ الوطنيَّةِ مقابلَ العُمُلاتِ الأخرى، كُلُّ ذلكَ حصلَ ويحصَلُ بعلمِ كِبارِ المسؤولين في الدَّولةِ، وبعضُها برِعايَةٍ مُباشِرَةٍ من حاكِمِ مَصرِفِ لبنان. 
إننا نهيبُ بالمَسؤولينَ المُولجين بتَحقيقِ العدالةِ الجِنائيَّة، الاحتِكام إلى ضَمائِرِهِم، وألاَّ يتأثَّروا بأجواءِ المُحاكماتِ الإعلانيَّةِ التي تُجرى عبرَ وسائلِ الإعلام، وتُسابِقُ تحقيقاتهم من دونِ أيَّةِ مًعطياتٍ حَقيقيَّة، والعَمَلُ وفقَ روحيَّةِ المبدأ القائلِ أن المتهم بريءٌ إلى أن تثبُتَ إدانتُهُ بحُمكمٍ قَضائي، وأن الغُرمَ بالغُنم، وليتثبَّتوا من صِحَّةِ الوقائعِ والمَزاعِم، وليتبيَّنوا الحقائقَ، وعندما تنجلي الحقائقُ أمامهم، عليهم ألاَّ يَبخلوا بأقسى العُقوباتِ ولكن بما يَتناسَبُ مع خُطورَةِ الأفعالِ والمسؤولين عنها.