بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 شباط 2022 08:47ص مدخل إلى إلغاء الطائفية السياسية

حجم الخط
لم يكن لبنان في يوم من الأيام ذات دين أو مذهب واحد، بل كان وما يزال موطناً للأديان المتعددة، وكان يتوزع لبنان في عصوره الغابرة عدد من المذاهب الفينيقية وما كان يرافق تلك المذاهب من اعتقادات مستوردة من الآرامية والحثية والآشورية والكلدانية والمعمورية. ثم أتت المسيحية وصرفت بضعة قرون وهي تتنازع مع المذاهب الفينيقية. وبعد ذلك عرف لبنان الإسلام وانقسم كل من الدينين المسيحي والإسلامي إلى عدد من المذاهب التي لا تزال تتفاعل حتى اليوم.

أضف إلى ذلك أن لبنان كان دائماً مأوى للطوائف المضطهدة اللاجئة إليه منذ أقدم العصور. لجأ اليهود إليه لما اضطهدوا في فلسطين قبل ميلاد السيد المسيح، والموارنة لما اضطهدتهم الكنيسة الأنطاكية، والأرمن لما عاملتهم تركيا بقسوة، إلى غير ذلك، وهذا يعني أن لبنان بلد مفتوح أمام الأقليات الطائفية.

وقبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم يكن للطائفة فعل في الوجود اللبناني، مع العلم بأن اللبنانيين حينذاك كانوا أكثر تديناً وأكثر تمسكاً بنواميس طوائفهم مما هم عليه الآن.

غير أن الطائفية بدأت تكون مشكلة مع بداية التدخل الأجنبي في لبنان، خصوصاً بعد فتنة 1860، وهي الفتنة التي طبخت في مطابخ الدول الأجنبية وقدمت طعاماً مسموماً إلى اللبنانيين، وهذه حقيقة تاريخية لم ينكرها حتى المؤرخون إلى جانب أنفسهم.

وقد عمد الانتداب إلى تغذية الطائفية التعصبية التي كادت أن تخمدها مشانق السفاح العثماني جمال باشا باستشهاد الأحرار المسلمين والمسيحيين عليها. علماً بأن الدولة المنتدبة كانت قد طلقت مسيحيتها وتزوجت العلمانية.

وقد أدرك اللبنانيون جميعهم أن الانتداب جاء ليفرق وينهب وتغيرت بالتالي نظرتهم آلية في الثلث الأخير من فترة العهد الانتدابي.

وكانت ثورة لبنان في تشرين 1943، وخُيِّل للبنانيين في ذاك الحين أن الطائفية قد ماتت ودفنت في ثورة تشرين، غير أنها برزت من جديد بتكريس المادة 6 و6 مكررة التي وضعها الانتداب ولمصلحته. وهكذا احتفظت الطائفية بمكانتها وبقيت الوحدة اللبنانية على ذمة العاطفة والمساومة، كما تكرست الطائفية في المجال الوظيفي لمصلحة تجار السياسة، واستمرت بدعة في تنويع المواطنين.

وعندما نتكلم عن الطائفية لا نعني الدين في صورة خاصة، فالدين مهما تعددت الطائفية فيه، ومهما اختلفت نظرة هذه الطائفة أو تلك إلى الماهية الإلهية وتباينت التفسيرات، فالدين كل دين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوصي بالتعايش الإنساني ولا يدعو إلى التباغض والتقاتل، وهذا ما يؤكده المتدينون أنفسهم. لكن المشكلة الخطيرة، إنها الطائفية التجارية التي يلوث بها لبنان دستوره وقوانينه، والتي يجب أن تزول قبل أن يزول لبنان الحكم ويتهاوى مع زواله الوجود اللبناني نفسه.

إن مشكلة لبنان الحكم الأساسية، لا بل مشكلة الوجود اللبناني والتي تتفرع منها مشاكل لبنان كلها تتجسد في هذه الطائفية بمفهومها الخاطئ، لا بمفهومها الصحيح. لقد بات لبنان بسببها في مهب العواصف، بين عاصفة تهب منه وعاصفة تهب عليه، وتتعهد هذه وتلك العاصفة العاتية الآتية من الخارج.

إن جميع العلل التي حلت في لبنان تعتبر تفرعات من العلة الأساسية التي أشرنا إليها، فهي السبب في جعل مراكز الحكم حكراً على من لا يستسيغونها لمجرد كونهم مسيحيين موارنة أو أرثوذكس أو كاثوليك، أو مسلمين شيعة أو سنة أو دروزاً، وهي التي كانت السبب في تقهقر الإدارة اللبنانية إذا أوصلت أشخاصاً لم ينالوا شرف الوظيفة بالكفاية بل بسيف الطائفية، كما كانت السبب في رواج سوق المحسوبية وابتذال القيم وتكريس الجهود التنموية في مناطق محظوظة من دون سواها من المناطق. وكانت السبب أيضاً في تفسيخ الوحدة الوطنية وزرع بذور التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وقتل الروح الوطنية بينهم وهو جلّ ما يتمناه العدو المتربص بنا، فلا عجب أن يكون لهذا العدو النشاط الأوسع لتعزيز الطائفية عندنا.

إن حملة التخويف والتخوف وعقدة الغبن المستمرة في هذه الأيام والتي لم يسبق لها مثيل تأخذ مقوماتها من المشكلة الأساسية، أي من المشكلة الطائفية.

فكيف تحل هذه المشكلة الخطيرة؟

إن الحل الجذري غير التساومي يرتكز على ما يأتي:

أولاً: إن الدولة في الواقع لا تعتبر دولة ديموقراطية بالمعنى الصحيح باعتبار أن دستورها ينص على وجوب التقيد بالطائفية كما تنص المادة 6 و6 مكررة من الدستور اللبناني. فإلغاء هذه المادة هو أول عمل إيجابي يجب أن يقوم به لبنان الحكم إذا أراد أن تكون الدولة دولة ديموقراطية فعلاً، لأن دستوراً يتضمن مثل هذه المادة لا يكون دستوراً ديموقراطياً ولو وضع فيه ألف مادة تشهد بديموقراطيته. إن المادة 6 و6 مكررة هي عدوة الكفايات والأدلة على ذلك متوافرة لدى من يزور السرايات.

ثانياً: إن المواطنية في البلدان الديموقراطية لا تدمغ بدمغات مختلفة كي تلفت الإنتباه إلى نوعية هذا المواطن أو ذاك، فالمواطن مواطن أياً كان انتماؤه الديني. إن البدعة اللبنانية في تنويع المواطنين، وهي ليست بالأصل وليدة إرادتهم، ليس فيها شيء من الديموقراطية. إنها بدعة تأخرية يسجلها لبنان على نفسه في كل تذكرة هوية يحملها المواطنون اللبنانيون.

ثالثاً: يقتضي النظام الديموقراطي إجراء انتخابات نيابية سليمة وذلك بعدم الأخذ بالدائرة الصغيرة بل بتوسيعها كي تشمل لبنان كله. عندئذ تبرز الروح الوطنية وتتلاشى المصلحة الفردية المبنية على المفهوم الطائفي الضيق ويتعزز الوطن وبالتالي بوصول أصحاب الكفايات.

إن الانتخابات في لبنان، في عهديه الإنتدابي والاستقلالي، هي سكين مسموم في قلب الديموقراطية وتزوير لها.

رابعاً: لن يكون لبنان دولة ديموقراطية ما دام لبنان الحكم له شخصيتان: شخصية مسيحية وشخصية إسلامية مع تفاوت اتجاهات كل منهما.

إن بلداً مثل لبنان هو أحوج ما يكون إلى أن يعيش عصره، أي إلى إلغاء الطائفية السياسية، إذ لا التدابير التوازنية ولا السياسات الاسترضائية تحل المشكلة جذرياً. هذه كلها جرعات تخديرية يذهب مفعولها عند أصغر حادث، وليس من يخفى عليه افتعال الأحداث في لبنان والسنين العشر الأخيرة أكبر شاهد على ذلك.

خامساً: إن البلد الذي يعتز بوجوده الاجتماعي المتطور ليس طبيعياً ولا منطقياً أن يكون في وجوده الواحد وجودان: وجود تقدمي ووجود تأخري. ولطالما سمعنا اللبنانيين يتفاخرون بأن بلدهم بلد تقدمي متطور.

إن هذه المفاخرة ليست في محلها، إذ أن التفاوت كبير نتيجة تخمة مناطق محظوظة على حساب مناطق محرومة بسبب الموازين الطائفية والمشكلة الطائفية التي يجب أن يبادر من في يدهم الحل والربط إلى حلها وذلك بإلغاء الطائفية السياسية قبل أن يفرض عليه حلها لبنان الشعب.

سادساً: لقد كرس الميثاق الوطني الذي كان تسوية مؤقتة، الطائفية واعترف بها ضمناً، وكرس علاقات الطوائف ضمن خطوط مصلحية وحزبية بدل أن يعتبر بالخطوط الوطنية الجامعة. لذلك لم يكن الميثاق، الديمقراطي في ظاهره، إلا وسيلة أخرى من الوسائل التي استثمرها الطائفيون.

لذلك ينبغي وضع نهاية لهذا الميثاق بالتخلص من شوائب الوضع القائم والبدء بمواكبة العصر وتطوراته وذلك بإلغاء الطائفية السياسية منطلقاً للعمل السليم ليكون لنا وطننا لبنان الوطن الأمثل.