بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 نيسان 2022 09:18ص مدن الإسلام: العلوم والأبحاث

حجم الخط

قد يكون عهد المأمون، الذي امتد على عشرين سنة من عام 813 إلى عام 833، قد استهل بالدماء الأخوية، إلا أنه في نهاية خلافته، ترك إرثاً من الإنجازات الفكرية العظيمة لم توازها أي خلافة عباسية. ووضع المأمون الأسس للأبحاث العلمية من خلال رعايته العلماء بسخاءٍ كبيرٍ: فهو جذب أعظم الباحثين المعاصرين إلى بغداد برواتب عالية ومناصب مرموقة ليجروا أبحاثهم في تلك المدينة المهمة من العالم.

ومنحت أحدث تكنولوجيات الورق، التي وصلت إلى بغداد من الصين في أواخر القرن الثامن، فرص ازدهار جيلٍ جديدٍ من الخطاطين والمترجمين المتمتعين برواتب عالية، والصارفين اهتمامهم إلى دراسة الحقوق الرومانية والطب اليوناني، والرياضيات، والفلسفة، والجغرافيا، والتصوف الهندي، والثقافة الفارسية، وعلم الخرائط، وعلم الفلك، وشعر الجاهلية. وفي خلافة المأمون، أصبح بيت الحكمة المعزز والمزخرف، القلب النابض للنشاط الفكري العباسي، ومركز الأرشفة العباسية الملكية، وأكاديمية تعليمية، ومكتبة، وخلية للتفكير، ومكتب ترجمة، معززاً بفريق عملٍ محترفٍ مشكلٍ من علماء ونساخ ومجلدي كتب. وفي أواسط القرن التاسع، بات البيت أكبر مخزون للكتب في العالم، «نبتت من زرعه كل إجازات العصر الذهبي للعلوم العربية، من أوزبكستان في الشرق إلى إسبانيا في الغرب».

وانتشرت ترددات بغداد الفكرية في أنحاء آسيا كلها، وكان عصر بروز الكتب الجديدة والمكتبات وغرف القراءة ومتاجر الكتب وفيضٍ من الدراسات.

وفي عام 828 أوكل المأمون مرصداً فلكياً كان الأول في العالم الإسلامي، ليتحقق من الملاحظات التي كان قد دونها عالم الفلك والجغرافي بطليموس في القرن الثاني، تحديداً في كتابه الشهير «المجسطي». وكان هذا العمل إنجازاً طويل الأمد في التصميم والتوصيل، وكان «أول مشروعٍ علمي واسع النطاق وممول من الدولة في العالم».

وطلب المأمون من كل من الإخوة بني موسى: محمد وأحمد وحسن، الذين كانوا علماء في الرياضيات والفلك والهندسة، أن يقيموا دقة القياسات القديمة لمحيط الأرض. فأخذوا يثبتون الحبال ويمدونها أرضاً لأميالٍ وأميالٍ طوال سهل سنجار، شمال غربي بغداد، ومن ثم كرروا العملية في الصحراء حول الكوفة من أجل التحقق من أرقامهم، وبعد أن أخذوا مقاسات ارتفاع النجم القطبي، قدروا مقاس محيط الأرض بأربعٍ وعشرين ألف ميلٍ، وهو رقمٌ يتناسب والقياس القديم العالمي (وكان الرقم تحديداً 24.902 ميل). وكان الإخوة بنو موسى أصحاب نفوذٍ وقوة، ومولوا مهمات إلى بيزنطيا بهدف إعادة مخطوطات جديدة من أجل ترجمتها عن يد باحثين تعاقدوا معهم ودفعوا لهم رواتب جذابة للغاية، تكاد تضاهي رواتب كبار القواد. وكان محمد بن موسى الخوارزمي (توفي سنة 850 م) بارزاً بين الباحثين والعلماء في بيت الحكمة، وعالماً في الرياضيات والفلك، مؤلف كتاب «المختصر في حساب الجبر والمقابلة»، الرائد، الذي أهداه إلى المأمون، مثل العديد من الدراسات العظيمة التي كُتبت في حينها. وغالباً ما يُذكر الرجل كلما استخدمت كلمة «الجبر» التي نبعت من عمله البارز، الذي كان أيضا سبباً لانتقال الأرقام العربية إلى الغرب في العصور الوسطى. وتضمن كتابٌ مهمٌ آخر من تأليفه، وهو «كتاب الجمع والتفريق في الحساب الهندي»، للمرة الأولى، نظام الترقيم العشري المؤلف من تسعة أرقام والصفر، «الرقم العاشر الذي يتخذ شكلاً دائرياً»، ما فتح المجال أمام اكتشاف الكسور العشرية واستخدامها لاحقاً في الرياضيات.

إلى اللقاء...

المصدر: الشرق الأوسط