بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 شباط 2021 12:04ص مش «كلن يعني كلن»... جان عبيد نيالك

حجم الخط
كأن قدر الكبار الكبار في وطن الأرز لبنان ان يرحلوا بصمت وهدوء، بعيداً عن الضوضاء والأضواء والصخب والضجيج، وكأني بهم يُدركون أن الغياب لا يعني الرحيل، تماماً كنور الشمس التي لا تلبث أن تغيب حتى تشرق بوهجها ودفئها من جديد.
عندما قررت كتابة هذه السطور وهذه المقالة كنت أدرك جيداً عمّن أكتب ولمن سأكتب، أما كيف ولماذا قررت ذلك فهنا بيت القصيد.
لم يكن على الإطلاق من محبي الاطراء أو المديح والثناء أو التعظـيم أو الممالقة، بل كان دائماً من محبي الحوار وعشاقه بشفافية وبدبلوماسية ما بعدها دبلوماسية، يحاور بالمنطق، يقارع الحجة بالحجة، أما الإقناع بالنسبة إليه فلا يتكل إلا على البراهين، إن صمت حكت عيناه، وإن حكت عيناه ساد السكون والهدوء في مجلسه والمكان، تنهل من بحره لا بل من مدرسته الكثير الكثير، ثقافة وعلم وأخلاق وشيم وتواضع وأدب، موسوعة من الفكر والإبداع والثقافة والإقدام هو، يسرقك فكره النيّر وحديثه العذب حتى يكاد اللقاء به يُعدّ أغنى وأجمل من كنوز الأرض وما فيها وما عليها، صداقته كالخبز والملح، إن اجتمعا معاً في حضرة جان عبيد من دون ألقاب يشكلان مساحة كبيرة للحوار بالعقل والمنطق والوجدان والضمير، منه قد تعلمت الكثير الكثير، وأدركت ان الرجل يغوص بعيداً في عالم المروءة والشهامة والرجولة والوفاء والكبرياء إلى أبعد الحدود.
عذراً أيها الصديق الصدوق، معالي الوزير، كلماتي هذه ليست كلمات رثاء، ولن تكون، لأنه مهما انتقينا وبحثنا وفتشنا في قواميس اللغة والأدب والمعاجم قد لا تجد حروفاً وكلمات تعدد مزاياك وصفاتك، لا بل قد لا تجد في كل موسوعات وكتب وقواميس هذا العالم ما يليق بك أيها الكبير الكبير.
لن أردد ما قاله عنك الآخرون وما كتبوا وما نشروا حول شخصك ومزاياك، فما قالوه وما كتبوه وما نشروه حول شخصك الكريم ما هو إلا القليل القليل، إلا انني اعتز وافتخر بأنني كنت أحد الذين تشرفت بصداقتك لا بل بأخوّة جعلتني استذكر من خلالها تلك اللقاءات الجميلة المميزة التي جمعتني بك على مدى سنوات وسنوات.
إن أنسى فلن أنسى عندما كان لي شرف اللقاء بك مع شريكة عمري وزميلتي في المهنة ندى، حيث كان اللقاء معك دائماً أخوياً بكل ما للكلمة من معنى، وكان موعد في كل عام يحصل ما بين عيدي الميلاد ورأس السنة في مكتبك الخاص في سن الفيل، وكنت تحدد لنا ساعة كاملة بالتمام والكمال.. أما كيف كانت تبدأ وتنتهي مثل تلك اللقاءات، فلا بدّ من ذكرها للدلالة على مدى عمق المحبة والمودة والاحترام المتبادل في ما بيننا وبين شخصك الكريم والعكس هو صحيح.
كان اللقاء يبدأ عادة بفنجان من الزهورات مع العسل، ثم كنت تصرّ وتقول لي كما لندى أيضاً، لدينا ساعة كاملة من الوقت، أريد في الربع ساعة الأولى ان استمع اليكما بإصغاء، والربع ساعة الثانية من كل لقاء سأعلق على كل ما يقال، اما الربع ساعة ما قبل الأخيرة، سأدلي لكما برأيي وتصوري بشأن الاوضاع الراهنة في لبنان والمنطقة، فيما الربع ساعة الأخيرة تكون مخصصة للعموميات والاطمئنان عن أحوال العائلة والأهل والأقارب، إضافة إلى مسار عملنا الإعلامي في المطار أو في غيره، كما أذكر جيداً ما كنت تلح وتقوله لي: اسمع يا درويش، كل ما نقوله هنا في هذه الغرفة يجب أن يبقى هنا وأن لا يخرج خارج عتبة وباب هذا المكتب، وهكذا في بداية كل عام، يبدأ اللقاء وينتهي على هذا الأساس من الاتفاق على الاتفاق. وكنت تأبى مع كل لقاء الا ان تستقبلنا على باب مكتبك وأن تودعنا حتى باب المصعد، وهذا الأمر إن دل على شيء فإنه يؤكد على مدى تواضعك واحترامك لنفسك ولضيوفك على حدّ سواء.
جان عبيد بربك من أي طينة أنت، من أي عالم جئت إلينا في بلد يتخبّط فيه السياسيون والحكام والمسؤولون بما يتخبطون به من الفساد والسرقات والصفقات  والسمسرات والخلافات في ما بينهم من رأسهم حتى أخمص القدمين، دون مخافة الله ودون وجل أو خجل.
جان عبيد بربك، كيف استطعت ان لا تنغمس أو تقترب أو تلامس أساليبهم القذرة لا بل النتنة بكل ما للكلمة من معنى، لا بل كيف لك ان تخبرنا بعد هذه الحقبة الطويلة من ممارسة فن السياسة بعالمها الواسع الشاسع، كيف استطعت البقاء تغرّد خارج سربهم، وبالتالي بربك قل لنا كيف نجحت في استقطاب محبة النّاس، كل النّاس واحترامهم لك من دون استثناء في بلد اختلف فيه الكل مع الكل، على الصغيرة والكبيرة، الا أن كل اللبنانيين، على مختلف أطيافهم وفئاتهم وأحزابهم وتياراتهم ومناطقهم وطوائفهم ومذاهبهم ومشاربهم وشرائحهم اجمعوا على نظافة كفك وروحك وفكرك وثقافتك وشخصك...
جان عبيد، كنت وستبقى دائماً على خلق عظيم، تعلمت منك الكثير، وفي كل لقاء كان يجمعني بك كنت أخرج كمن يأخذ معه «زوادة» الدروس والحكمة والعبر والثقافة، اسمح لي يا معالي الوزير، أيها الصديق الغالي والحبيب، أن أذكر فقط ما قلته لي يوماً، حين كنت تستشهد دائماً بسور وآيات من القرآن الكريم، وتعلمت منك أيضاً على سبيل المثال لا الحصر انه عندما يتوفى أحدهم ويتم نعيه بعبارة: «انتقل إلى رحمته تعالى المغفور له...»، وكان رأيك بل على اعتراضك على هذه العبارة واضحاً معللاً إصرارك بأنه يجب أن يتبع كلمة المغفور له بإذن الله تعالى، لأن الله سبحانه بجلاله هو وحده يُقرّر الغفران عن عدمه، لأي شخص يرحل عن هذا العالم. ومرة أخرى قلت لنا أيضاً، عندما تواجهك أي صعوبة في هذه الحياة تذكر جيداً أن تقرأ «سورة الضحى» من القرآن الكريم وبعد ان قرأتها على مسمعنا وصلت الى: «ولسوف يعطيك ربك فترضى». وكان كل ذلك يُشكّل بالنسبة لك قناعة أن الأديان والكتب السماوية هي جميعها السبيل الوحيد، لا بل الطريق التي تمهد لنا للوصول الى السكينة والاستقرار والسلام ومن ثم التصالح مع أنفسنا كما مع الآخرين.
كنت عندما ألح عليك بالسؤال دائماً هل تطمح لتكون رئيساً لجمهورية لبنان، تجيب مع ابتسامة عريضة تخفي وراءها الكثير من الأسرار والألغاز، إسمع جيداً يا درويش، أنا أريد وأنت تريد ولكن الله يُقرّر ما يريد، جوابك هذا كان شافياً ووافياً يا معالي الوزير للدلالة على عمق وصدق ونيل مشاعرك وحكمتك وأحاسيسك وقناعاتك وأخلاقك الرفيعة المميزة.
نعم من قال «كلن يعني كلن»، لا أيها الاحبة، هناك رجال قلّ نـظيرهم في هذا البلد أمثال جان عبيد وغيره، لا يتكررون، هم من الرجال الرجال الذين رفضوا وأبوا على مدى سنوات حياتهم السياسية أن يغمسوا أياديهم بدماء الأبرياء، أو أن يمدوا أيديهم أيضاً إلى «المال الحرام» وعلی سبيل المثال لا الحصر، لن نعدد الا قلة من الشخصيات التي حكمت ومرت على هذا البلد أمثال رجل الإدارة والمؤسسات فؤاد شهاب، كما الرئيس الراحل الياس سركيس الذي عمل الوزير جان عبيد إلى جانبه كمستشار له في أصعب الظروف لإنقاذ لبنان، مما كان يتخلط به في حينه من حروب وأحداث، وإن ننسى فلا يُمكن أن ننسى رجلاً تميز أيضاً بنظافة الكف وسمي بضمير لبنان وهو الرئيس الدكتور سليم الحص أطال الله بعمره، كما العميد ريمون إده الذي عُرف بنظافة كفه رغم ما كان يقال ويشاع حول «حنفية العميد» حين يفتحها على السارقين والناخبين والفاسدين من سياسيّي هذا البلد منذ ذاك الزمن، والتي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى أيامنا هذه للأسف الشديد.
لا مش «كلن يعني كلن» فجان عبيد وقلة مثله لم يلجأوا يوماً بعد إلى حروب الشوارع والأزقة والمدن والقرى والمناطق، حيث ذهب مئات لا بل آلاف الضحايا البريئة والجرحى والمفقودين وكانت مثل تلك الأحداث العجاف نتيجة تسلط عدد من السياسيين والحكام والمسؤولين على مدى سنوات عديدة،في حين انهم لم يتورعوا عن اختلاس أموال النّاس وسرقتها بطرق مبتذلة وملتوية كما أموال الدولة والخزينة أيضاً، وما وجوههم الكالحة الا خير دليل على أفعالهم وممارساتهم السيئة التي أنهكت البلد وناسه الطيبين وبات الفقر والجوع والمرضى والعوز يطرق باب كل بيت وعائلة، فيما هم لم يرف لهم جفن، وما كلام رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر الأخير بمناسبة عيد مار مارون حول فسادهم يكاد يلخص المشهد من خلال كلمات قليلة معبرة ان ما ينتظرهم يوماً ما هو حساب عسير، معدداً ما هم عليه من موبقات ونعوت وصفات يندى لها الجبين.
جان عبيد، كأنني بأبي الطيب المتنبي، أراد ان يسابق العصر والزمن ليرتجل بيتاً من الشعر ينطبق عليك تماماً حين قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي واسمعت كلماتي من به صمم. فعلاً جان عبيد، أنت من ينطبق عليك هذا القول وهذا البيت من الشعر.
جان عبيد، دائما إليك وعليك السلام، في حياتك كما في عليائك، فأنت من اختصر الوطن بأكرم الرجال وقلة قليلة هم أمثالك من السياسيين والمسؤولين.
في هذا الزمان الرديء، تنام على تراتيل الإنجيل المقدس وتصحو على سور وآيات القرآن الكريم، قصيدة بحد ذاتها أنت، اختصرت حكاية الوطن كل الوطن من خلال محبة الجميع لك، وأخيراً لا آخراً، «نعم، مش كلن يعني كلن.. جان عبيد نيالك»...