بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 كانون الأول 2018 12:00ص من حكايا لبنان السياسيّة.. العهد الإستقلالي الثاني يدخل شهوره الأخيرة 2/2

فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بترشيح من عبد الناصر وموافقة أميركية

حجم الخط
مع بداية العام 1975، كان الإنقسام السياسي في لبنان قد بدأ يتوسع، مع اتجاه الرئيس كميل شمعون للموافقة على مشروع ايزنهاور، والعمل لتجديد ولايته، كما رأينا في الحلقة السابقة.
إذا كانت المعارضة لعهد الرئيس كميل شمعون قد تمكنت من حشد كل قوتها لمنع التجديد له وإسقاط حكمه، متمتعة بدعم الجمهورية العربية المتحدة، فيما الحكومات القريبة والمسؤولون فيها لم يتوحدوا على موقف من التطورات المتسارعة التي كان يشهدها لبنان ويقول مايلز كوبلاند في هذا الخصوص: «بقي المسؤولون الغربيون فترة من الزمن هائمين على وجوههم وسط زحام الأحداث في لبنان لا يدرون ماذا يفعلون، كما بقيت جهودهم دون تنسيق وآراؤهم دون توحيد. فلم تعد تدري من يسيِّر دفة الأمور ويمسك بزمام الموقف، فقد أيد السفير ماكلينتوك فكرة التجديد للرئيس شمعون، الا انه سرعان ما عدل عن رأيه هذا إلى آخر معاكس له تماماً، وبذلك أضحى السفير على خلاف في الرأي مع كل من بيل ايفلاند، ووكالة المخابرات المركزية الأميركية ومعظم طبقة رجال الأعمال الأميركيين الذين اصروا على فكرة التجديد وتمسكوا بها.
ويؤكد كوبلاند ان «اميل بستاني - يصفه بمقاول مليونير مسيحي - وفوزي الحص - يصفه ايضا بمقاول مليونير مسلم - وهما يتمتعان بثقة رجال الأعمال الغربيين واحترامهم، بحثا معي إمكانية التوسط لدى الرئيس جمال عبد الناصر لما بيني وبينه من صداقة وحسن صلة لإيجاد حل مناسب للأزمة اللبنانية يسمح لكل من المصريين والاميركيين بسحب تأييدهم (للبيارتة الاربعة) ولحكومة شمعون، كما ان على الحل المناسب ان يترك الباب مفتوحا على مصراعيه امام العناصر المعارضة لشمعون والمؤيده له للتوصل إلى تسوية سلمية بينها لإنهاء الصراع، وإنقاذ ما تبقى من البلاد من الخراب والدمار».
ويؤكد كوبلاند بقوله: «كان لي اتصال سابق مع كلا الرئيسين شمعون وناصر، وذلك قبل ان تتفاقم الأحداث وتبلغ الأزمة ذروتها في لبنان، وبعدها لمست استحسان إحدى كبريات شركات البترول لفكرة الوساطة (وكان ذلك في حزيران/ يونيو) عزمت أولاً على مفاتحة الرئيس شمعون بالفكرة، ومن ثم الرئيس عبد الناصر، ولم يكن جلّ همي في البداية ترويج الفكرة والدعوة لها بقدر ما كان الوقوف على مدى استعدادهما للتجاوب مع الفكرة.
ويواصل مايلز كوبلاند سرد روايته فيقول: «وتحت ضغط فوزي الحص واميل بستاني، غادرت بيروت إلى القاهرة، وقصدت ناصر للاجتماع به بعد تبادل سريع للآراء مع سفيرنا هناك ريموند هير، وكنتيجة لمقابلتي ناصر وسفيرنا، قدم ناصر إلى السفير اقتراحاً جاء فيه: «لما كانت كل من الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية العربية المتحدة تمثلان الطرفين الخارجيين اللذين لهما علاقة بالأزمة اللبنانية، فإنني لا أرى مانعاً في عقد اجتماع يضم الطرفين، وذلك للتوصل إلى اتفاق حل يفرضانه على اللبنانيين، الا ان السفير هير ردّ على اقتراح ناصر (بعد تبادل الرأي مع واشنطن) بجواب تعمد فيه إساءة تفسير اقتراح ناصر وجاء فيه (انه من دواعي سرور حكومة الولايات المتحدة ان تبذل قصارى جهدها للتوسط في النزاع بينك وبين الرئيس شمعون»، الا ان ناصراً، الذي اعتاد ان يوقع السفراء الأميركيين في شركه، دون تذمر أو احتجاج منهم، تضايق من هذه المكيدة التي دبرها السفير هير، وعندما اجتمعت به احسست انه ما زال يُعاني من وخزها، ومع ذلك فقد اسهب ناصر في شرح آرائه حول الأزمة اللبنانية لينتهي اخيرا إلى القول، انه لو كانت الأزمة اللبنانية تخصه وحده دون سواه، فأنَّ ما يفعله هو تنصيب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ورشيد كرامي رئيساً للوزراء. واختتم ناصر الاجتماع معقباً: لو ان الأمور بقيت على حالها فلا بدّ من الوصول بها إلى نهاية ما، نشهدها بأم أعيننا ونرعاها بأيدينا، ولن يوقف أحد من دعمه للأطراف الموالية له، وستبقى مصر لحلفائها، وستبقى الولايات المتحدة لأعوانها».
ولدى عودة كوبلاند إلى بيروت يقول: «وجدت ان هناك عملية ضخمة كانت في طور الإنجاز والتنفيذ، فقد قامت مجموعة اغنياء المسلمين اللبنانيين تحت اشراف فوزي الحص بالاسهام في مجهود مشترك لشراء الأنصار من حول (البيارتة الاربعة) تخفيفاً لحدة التوتر. كما تطوع رئيس مجلس النواب آنئذٍ عادل عسيران للتوسط بين المعتدلين من أنصار شمعون والمعتدلين من معارضيه، واثناء غيابي عن بيروت، اخبر السفير الأميركي الرئيس شمعون ان الأدلة على تدخل الجمهورية العربية المتحدة لم تكن مقنعة ولا حاسمة، كما ان مراقبي الأمم المتحدة لم يعثروا على أي دليل لهذا الغرض ولهذا فإنَّ نزول القوات الأميركية في لبنان أمر غير وارد البتة. وهكذا أصبح الرئيس شمعون مثبط الهمة، وغدت فكرة التوصّل إلى تسوية النزاع أكثر احتمالا واقرب منالاً».
ويؤكد باسم الجسر «ان الحكومة اللبنانية تقدمت بشكوى لدى مجلس الأمن ضد الجمهورية العربية المتحدة متهمة إيّاها بمساعدة الثوار وبالتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، فأرسل مجلس الأمن فريقاً من المراقبين للتأكد من صحة الشكوى، وجاء تقريرهم لا يُؤكّد ولا ينفي وجود التدخل.
وتقدمت الحكومة اللبنانية بشكوى ثانية امام مجلس جامعة الدول العربية، دون ان تحظى بنتيجة.
عندئذٍ طلب الرئيس شمعون تدخل أميركا العسكري والذي حدّد اسبابه بخمسة هي:
1 - المساعدة التي تقدمها جهات خارجية للثوار.
2 - ان الشكوى إلى جامعة الدول العربية لم تعطِ أي نتيجة.
3 - ان مراقبي الأمم المتحدة لم يقوموا بأيِّ عمل.
4 - ان مجلس النواب اعطاني في جلسته المنعقدة في 16/1/1958 تفويضاً بالقيام بأيِّ عمل يضمن استقلال لبنان وسيادته وترك له حرية اختيار الظرف المناسب للتنفيذ.
5 - ان قيام الثورة في العراق في 14 تموز 1958 كان من شأنه تشجيع الثوار على الاستيلاء على الحكم في لبنان. وهنا، يقول شمعون، استدعيت سفراء أميركا وبريطانيا وفرنسا وطلبت تدخل الأسطول السادس.
لم تستجب واشنطن في البدء لطلب شمعون بإنزال قوات البحرية الأميركية، ولكن قيام ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق وسقوط النظام الملكي، جعل واشنطن تستجيب لطلب الرئيس شمعون وانزلت قوات المارينز على شواطئ بيروت تنفيذاً «لمبدأ ايزنهاور» وقد صرّح الرئيس ايزنهاور آنئذٍ، انه لم يفعل ذلك الا تلبية لنداء رئيس الجمهورية اللبنانية».
ويؤكد يوسف سالم انه عندما نزلت البحرية الأميركية على الشواطئ اللبنانية، حاول الجيش اللبناني التصدّي لها ومنعها، وكاد يقع اصطدام بينه وبينها لولا تدخل السفير الأميركي مع قائد الجيش اللبناني، والتأكيد له ان القوات الأميركية ليست آتية للاحتلال بل لضمان سلامة لبنان، وانها ستنسحب كما جاءت، عندما تطلب الحكومة اللبنانية ذلك.
يذكر أيضاً، ان قوات الأسطول الأميركي السادس طلبت احتلال تلة الخياط بعد نزولها إلى الشواطئ اللبنانية، لاعتقادها بأن القوات الشعبية المتمركزة في ذلك الموقع الحصين تشكّل خطرا على القوات الأميركية، لكن اللواء جميل لحود، وكان قائدا لموقع بيروت رفض مداهمة تلة الخياط بالقوة، وكان فيها المئات من الشباب اللبناني بقيادة محمّد كنيعو (كان وزيرا للداخلية في حكومة الحاج حسين العويني عام 1964)، تجنباً لسفك الدماء... وعالج الموضوع بحكمة وروية طبقا لوطنيته وبعد نظره متجنباً وقع كارثة في العاصمة، فيما كان الجيش يقوم بضرب مواقع الثوار.
وبعد ان قام بمحادثات على الصعيد العسكري، واتصل بقيادة الأسطول السادس، وبقيادة المقاومة الشعبية المتمركز في تلة الخياط، مستعملاً كل ما عنده من حكمة وقوة إقناع على ضوء مصلحة البلاد العليا، وتجنيب استعمال الجيش لسلاحه ضد المواطنين، واخيرا توصل إلى إقناع الطرفين بالموافقة على ارسال قوات رمزية من الجيش اللبناني إلى تلة الخياط، تمركزت إلى جانب المواطنين الثائرين، فاطمأن الأسطول الأميركي إلى سلامة افراده، وتجنب الضرب وسقوط الضحايا.
بعد تسارع الأحداث على النحو الذي ذكرنا أوفد الرئيس الأميركي ايزنهاور مساعده روبرت مورفي إلى لبنان، الذي اجتمع مع كل الأطراف. وتدارس الموقف معهم، ودس كما يقول يوسف سالم «اثناء حديثه سؤالاً عن الرجل الذي يستطيع فيما إذا تولى الحكم، ان يُعيد الأمن والطمأنينة إلى لبنان ويقضي على الفتنة» فكان إجماع المعارضة على رفض تجديد الولاية لشمعون، وفهم من حديثهم ان اسم الجنرال فؤاد شهاب مقبول».
وزار مورفي «شمعون ونصحه بأن لا يفكر في التجديد حتى لا يقال انه استعان بالجيش الأميركي ليجدد الرئاسة لنفسه، فأعرب له الرئيس شمعون عن خيبة أمله في اصدقائه الغربيين وفي طليعتهم الأميركيين» وقال له: «اني احصد ثمار موقفي معكم ضد الشيوعية، وها انتم الآن تقفون مع المعارضة ضدي».
واجاب مورفي، كما يُؤكّد يوسف سالم، جواباً قاطعاً بقوله: «لا تجديد، وإنما نترك لك يا حضرة الرئيس ان تفكر في الأمر، ويبدو لي، بعد ان درست الموقف، ان اللواء فؤاد شهاب هو اصلح المرشحين في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها لبنان».
قبل كميل شمعون باللواء شهاب على مضض، لكنه اشترط ان يظل في الرئاسة إلى آخر دقيقة من ولايته، مهما كلف الأمر، ومهما كانت الظروف.
وفي 4 آب 1958 تمّ انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وهو انتخاب وصف بأنه تمّ بعد توافق إقليمي - دولي، وبصفة خاصة مصري - أميركي، والتي يصفها مايلز كوبلاند بأنها جاءت مطابقة، لما كان يريده جمال عبد الناصر.