بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 تشرين الثاني 2018 12:00ص من حكايا لبنان السياسية 1982 - 1984

لبنان ينجو من الهاوية بإلغاء اتفاق 17 أيار

حجم الخط
في خضم التطورات التي رافقت اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل تركز الاهتمام على انتخاب خلف للرئيس الراحل، وخصوصاً أن أقل من عشرة أيام كانت تفصل عن نهاية ولاية الرئيس الياس سركيس الذي رفض أي شكل من أشكال التمديد بالرغم من تمنيات جهات محلية وإقليمية ودولية عليه بذلك. وأول إعلان للترشيح لانتخابات رئاسة الجمهورية كان إعلان حزب الكتائب عن ترشيح النائب أمين الجميل إثر اغتيال الرئيس المنتخب. ويتحدث كريم بقرادوني عن كيفية هذا الترشيح فيقول: «في تلك الليلة الحزينة - ليلة اغتيال بشير - صعد بعض أعضاء المكتب السياسي لحزب الكتائب إلى منزل رئيسه بيار الجميل في بكفيا، وما أن فاتحوه برغبتهم في ترشيح أمين حتى انتفض قائلاً: «نحن بيت الجميل مش معمولين تنعمل رؤساء، أنا حذّرت بشير من مغبة ترشيحه، والآن أحذركم من مغبة ترشيح أمين»، وفهم العارفون بحقيقة ما قصده بيار الجميل، فدعوا إلى اجتماع للمكتب السياسي وفي غيابه.
في اليوم التالي، تقرر ترشيح أمين الجميل بالإجماع. ومنذ تلك الفترة، كان بيار الجميل، يردد كلما اختلف أحد منا مع أمين: «أنا لم أرشحه، أنتم الذين رشحتموه، ووضعتموه على الصليب فتحملوا مسؤوليتكم.
في 17 أيلول 1982، أعلن المجلس السياسي الأعلى لحزب الوطنيين الأحرار ترشيح الرئيس كميل شمعون للرئاسة، وبهذا انحصرت معركة الرئاسة هذه المرة بين الرئيس شمعون والنائب أمين الجميل.
تعددت الاتصالات واللقاءات السرية والعلنية بين كل الأطراف، وبدأت المداخلات الخارجية في هذا الإستحقاق تلعب دورها.. وسرعان ما بدأ اللاعبون الكبار يحددون مواقفهم، على حدّ تعبير كريم بقرادوني الذي يقول: «في 16 أيلول صعد وزير الدفاع الإسرائيلي ارييل شارون إلى بكفيا لتقديم التعازي بوفاة بشير ولأخذ الضمانات بأن أمين ملتزم بسياسة بشير، واختلى شارون مع بيار وأمين الجميل اللذين أكدا له انهما أطلعا على محضر آخر اجتماع بينه وبين بشير، وأنهما يلتزمان بمضمونه. وقد أدت هذه الضمانات إلى اتخاذ موقف سريع من الحكومة الاسرائيلية بتأييد أمين. واستقر الرأي الأميركي على دعم الجميل بدلاً من شمعون بعد أن أجرى فيليب حبيب اتصالات مكثفة مع مختلف الأطراف المعنية، وقرر الرئيس رونالد ريغان إيفاد القوات المتعددة الجنسية إلى بيروت مجدداً وتمسكه بالمبادرة الأميركية لحل أزمة لبنان والشرق الأوسط».
«وتحركت فرنسا من جهتها، وأوفدت مبعوثاً اقترح التمديد للرئيس سركيس ولو لفترة عامين. وتأليف حكومة اتحاد وطني، لكن سركيس رفض هذا العرض بحزم، وأبلغ الجانب الفرنسي أنه لن يبقى دقيقة واحدة بعد انتهاء ولايته في 23 أيلول».
أما بالنسبة لسوريا، فقد تصرفت إزاء هذا الاستحقاق بكثير من المرونة والروية، فلم تعلن عن تأييدها لهذا المرشح أو ذاك، وإن كانت قد أبقت الأبواب مفتوحة أمام أمين الجميل دون أن تعلن عن ذلك، «وحتى لا تتحمل وزر الموافقة عليها».
أما على الصعيد الإسلامي، فإن أول المبادرين كان الرئيس صائب سلام الذي أعلن باسم التجمع الإسلامي عن تأييده لأمين الجميل، وكذلك فعل رئيس مجلس النواب كامل الاسعد وكتلته النيابية.. وهكذا بدا أن النائب أمين الجميل هو الأوفر حظاً للوصول الى سدة رئاسة الجمهورية.
في يوم 18 أيلول، عين رئيس مجلس النواب كامل الأسعد يوم 21/9/1982 موعداً لانتخاب رئيس الجمهورية خلفاً للرئيس المنتخب بشير الجميل. وذلك قبل يومين من انتهاء ولاية الرئيس الياس سركيس.
في العشرين من أيلول، أعلن الرئيس كميل شمعون عزوفه عن ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية وأوضح أن سبب عزوفه هو «ما سوف يفرض على من يشغل رئاسة الجمهورية من صلح منفرد يحرم لبنان من كل تعاون مع دول الجامعة العربية ويجعله معزولاً عن الشرق العربي».
في الحادي والعشرين من أيلول 1982 اجتمع مجلس النواب في المدرسة الحربية في الفياضية، وانتخب في الدورة الأولى، بأكثرية 77 صوتاً من أصل 80 نائباً حضروا الجلسة، النائب أمين الجميل رئيساً للجمهورية.
فانتخب النائب أمين الجميل إلى المركز الأول في البلاد وحالفه الحظ.
وينقل عنه كريم بقرادوني انه «يوم 14 أيلول ظهرا، كان العالم يعتقد انني انتهيت، وبعد الظهر من اليوم ذاته صرت رئيساً للجمهورية»! بدأ الرئيس الجميل ولايته وهو يتمتع بدعم محلي واقليمي ودولي قل نظيره، لكنه آثر من كل هذا، الدعم الأميركي، معتقدا ان مسؤولية الحل تقع على عاتق الأميركيين فقط، وانهم وحدهم القادرون على ذلك. ويعكس كريم بقرادوني هذا الواقع فيقول: «سرعان ما وقع أمين في الوهج الأميركي، واعتقد انه بمقدوره ان لا يقدم على خيار إسرائيلي ردا على سياسة شقيقه، ولا على خيار سوريا ردا على سياسة الياس سركيس، بل على خيار أميركي يتخطى القدرتين: الورية والاسرائيلية معاً، وراح يتصرف وكأنه الخيار الأميركي في الشرق الأوسط، وأخذ يلزم الأميركيين مسؤولية إيجاد الحل، وتبنى طبيعياً الاقتراح الأميركي ببدء المفاوضات الاسرائيلية- اللبنانية بمعزل عن سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية».
واذا كان الرئيس الجميل قد طرح في خطاب العهد بعد تسلمه مهماته الدستورية الخطوط العريضة لسياسته الخارجية بقوله: «اننا نزمع ان نوطد علاقات صداقة ومودة مع العالم بأسره، بدءاً بالأقربين أخوننا العرب، وانتماء لبنان إلى محيطه العربي ليس شرطاً علينا، بل خيار حر يحدده واقعه ومصالحه ودوره الطليعي وعضويته في جامعة الدول العربية...»، إلا أنه انطلق في المفاوضات مع إسرائيل، معتبرا ان واشنطن هي ضمانته إزاء إسرائيل وفي مواجهة سوريا، مع ان كل الوقائع على مدى الصراع العربي- الإسرائيلي، أكدت ان الولايات المتحدة كانت على الدوام إلى جانب إسرائيل، وبالتالي فهي لن تفضل لبنان على إسرائيل، وان كانت قد تجاوبت مع الرغبة اللبنانية، في العمل لتذليل العقبات للبدء بالمفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية. وقد اصرت الحكومة اللبنانية على ان تكون ذات طابع عسكري، فيما اصرت تل أبيب على ان تكون ذات طابع سياسي، وان تجري في القدس المحتلة على مستوى وزراء الخارجية، معتبرة ان اتفاقية الهدنة لاغية ومطالبة بتوقيع اتفاقية سلام. هنا افلح ضغط واشنطن على تل أبيب لجعلها تقبل بحل وسط فأتفق على ان تبدأ الاجتماعات في خلدة وكريات شمونة على مستوى موظفين من وزارتي الخارجية والدفاع في لبنان وإسرائيل وبمشاركة من وشنطن التي ارسلت فيليب حبيب وموريس درايبر كمبعوثين للرئيس رونالد ريغان.
مفاوضات خلدة
في 28 كانون الأوّل 1982، بعد مضي 96 يوما على تسلم الرئيس أمين الجميل مهماته الدستورية وقيامه بتحركات واسعة كان أبرزها زيارته للولايات المتحدة الأميركية واجتماعه مع الرئيس رونالد ريغان، بدأت المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية برعاية أميركية في خلدة ونتانيا، فترأس الوفد اللبناني السفير انطوان فتال وضم في عضويته القاضي انطوان بارود والسفير إبراهيم خرما والعميد عباس حمدان والعقيد سعيد القعقور والعقيد منير رحيم. وترأس الوفد الإسرائيلي مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية دايفيد كمحي، وضم ايلي كيم روبنشتاين، والسفير شمويل ديفور واللواء ابراشا تامير والعميد مناحيم ايتان والعقيد حمام آلون. وترأس الوفد الأميركي السفير موريس درايبر نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط الذي عاونه كريستوفر روس وضم عسكريين اميركيين.
تواصلت المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية بين خلدة وكريات شمونة، دون الوصول إلى نتائج حاسمة، وفيما المفاوضات جارية، فجر مبنى السفارة الأميركية في بيروت وسقط 47 قتيلا، وكان الهدف كما قيل السفير فيليب حبيب الذي تدخل في المفاوضات والذي تأخر عن لقاء السفارة لانشغاله باجتماع مع رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ايلي سالم والدكتور وديع حداد مستشار الرئيس للشؤون الوطنية في قصر بعبدا. ورغم ضخامة هذا الانفجار، فإنه لم يؤثر على سير المفاوضات التي استمرت بتأكيد من واشنطن ان الموقف الأميركي لن يتبدل.
32 جولة من المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية، والأمور ظلت تراوح مكانها، إلى ان قرّر وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز التوجه إلى الشرق الأوسط، والتدخل المباشر لإخراج المفاوضات من الحلقة المفرغة، فوصل في 26 آذار 1983 إلى مصر، ومنها انتقل إلى إسرائيل ثم إلى بيروت، وبعد سلسلة من الجولات المكوكية بين بيروت والقدس المحتلة، استمرت بين 27 آذار و6 أيّار 1983، توصل خلالها إلى اتفاق بين الجانبين وفي 7 أيّار التقى شولتز بالرئيس حافظ الأسد الذي أبلغ الوزير الأميركي رفض دمشق كل ما يمس بسيادة واستقلال لبنان وبأمن سوريا ومصالحها، ومصالح الأمة العربية.
ثم عقدت الجولة 33 فالجولة 34 من المفاوضات التي عقدت في 3 أيّار وفيها تمّ الاتفاق على النص النهائي. وفي 14 أيّار وافق مجلس الوزراء اللبناني في جلسة استثنائية على المشروع وفي 16 أيّار اطلع مجلس النواب في جلسة سرية على النص فأيده وجدّد دعمه للحكم بإجماع 80 نائباً ومعارضة نائبين فقط، وفي اليوم نفسه انعقد الكنيست الإسرائيلي وصادق على مشروع الاتفاق بأكثرية 57 صوتاً وامتناع 45 ومعارضة 6.
وفي 17 أيّار، وقع رؤساء الوفود «انطوان فتال وديفيد كيمحي وموريس درايبر الاتفاق باللغات الاربعة: الانكليزية والفرنسية والعربية والعبرية».
منذ ذلك التاريخ، بدأت المتاعب الفعلية في لبنان، ففي 19 أيّار اندلعت حرب الجبل التي انتهت في 19 أيلول 1983 بسيطرة الحزب التقدمي الاشتراكي عى كل القرى الجبلية.
ومما يذكره جورج حاوي عن حرب الجبل، ان إسرائيل اتقنت تنظيم حرب الجبل، حيث علمنا لاحقاً انها نظمت قبل ان تنسحب من التلال تسليمها أحياناً للكتائب، واحياناً للاشتراكيين على نحو يؤدي إلى التصادم فوراً، فقالت للاشتراكيين مثلاً انها ستنسحب في الأولى ليلاً وعليهم الحضور في ذلك الوقت، لكنها انسحبت قبل ساعتين وسلمت المواقع للكتائبيين، ففوجئ الاشتراكيون ومعهم مقاتلونا بالنيران تنهمر عليهم لدى توجههم الى المكان، وفعلت العكس في تلال أخرى ففوجئ الكتائب بنيراننا، وهكذا ادى الانسحاب الاسرائيلي الى اشتعال الحرب على جميع المحاور دفعة واحدة.
إلغاء اتفاق 17 أيّار
بأي حال، بعد سيطرة الحزب التقدمي الاشتراكي على كل القرى الجبلية، تحرّكت على الأثر المبادرات الخارجية لوقف القتال وكان أبرزها المبادرة السعودية. وقد اوفدت المملكة الأمير بندر بن سلطان، ورجل الأعمال رفيق الحريري كما ذكرت وكالة الأنباء والصحف آنئذ للقيام بوساطة مع سوريا انتهت بإعلان من دمشق في 12 أيلول يقضي بوقف إطلاق النار.
وفي حين كان الأمير بندر ورفيق الحريري يقودان المفاوضات مع دمشق، رفع لبنان شكوى إلى مجلس الأمن، وأعلنت واشنطن تعزيز اسطولها في المياه الإقليمية اللبنانية، وبدأ الرئيس ريغان يتحدث عن وصول حاملة الطائرات نيو جرسي، وأعلن الناطق باسم البيت الأبيض، لاري سبيكس ان سوق الغرب تشكّل خطاً أحمر.
في 26 أيلول قدم رئيس الحكومة شفيق الوزان استقالته، فتريث رئيس الجمهورية في بتها، فيما أعلن وليد جنبلاط نص وقف إطلاق النار من دمشق بحضور وزير الخارجية السورية عبد الحليم خدام والامير بندر.
في ظل هذه التطورات والحملات الإعلامية بين جبهة الخلاص وأمل من جهة وبين الحكم في لبنان من جهة ثانية، وفي ظل تبادل واشنطن ودمشق الحملات الإعلامية من جهة ثالثة، حملت الأنباء في 23 تشرين الأوّل، تفجير مجموعتين انتحاريتين مقر قيادة المارينز الأميركية، ومبنى فرقة المظليين الفرنسيين، أسفرت عن سقوط مئات القتلى والجرحى.
هنا اتضح امام الرئيس الجميل انه لا مناص له من بدء مسيرة الحوار التي دعت إليها السعودية، فاتصل بالرئيس حافظ الأسد وبالملك فهد بن عبد العزيز موجهاً إليهما الدعوة لحضور مؤتمر الحوار الوطني في جنيف الذي تقرر عقد أوّل اجتماعاته عصر يوم 31 تشرين الأوّل 1983 بمشاركة: الرئيس أمين الجميل، كميل شمعون، سليمان فرنجية، عادل عسيران، صائب سلام، رشيد كرامي، بيار الجميل، وليد جنبلاط، نبيه برّي، وبمراقبة وفد سعودي برئاسة وزير الدولة السعودي محمد إبراهيم مسعود، وقوامه السفير السعودي في بيروت الشيخ احمد الكحيمي، ورفيق الحريري، ووفد سوري قوامه نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية السورية آنئذ عبد الحليم خدام.
وتركز البحث يومئذ على إلغاء اتفاق 17 أيّار كشرط لإنجاح الحوار اللبناني - اللبناني... وبعد ثلاثة أيام، أنهى المؤتمر أعماله بالاتفاق على هوية لبنان العربية، وبفشل الاتفاق على إلغاء اتفاق 17 أيّار، ودعا البيان الختامي رئيس الجمهورية إلى الاستمرار في السعي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وتقرر عقد الحلقة الثانية من الحوار في 14 تشرين الثاني، لكن الحلقة الثانية من الحوار لم تعقد، ثم كانت حرب الضاحية وانتفاضة 6 شباط التي اخلى الجيش اللبناني على اثرها مواقعه في بيروت الغربية. وعلى الأثر أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغان سحب وحدات المارينز وانسحبت وراءها الوحدات المتعددة الجنسية.
في 5 آذار 1984، عقد مجلس الوزراء اللبناني جلسة تقرر فيها إلغاء اتفاق 17 أيّار واعتباره باطلاً وكأنه لم يكن مع ما ترتب عليه من اثار، كما تقرر إبلاغ قرار الإلغاء إلى كل الأطراف الموقّعة عليه.
وبهذا الإلغاء أصبح الطريق مفتوحاً امام الجولة الجديدة من مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في لوزان في 12 اذار 1984، حيث ركز فيه المؤتمرون على وقف إطلاق نار فعلي وثابت، إلى صيغة للاصلاح السياسي، فتقرر تشكيل لجنة أمنية عليا برئاسة رئيس الجمهورية أنيط بها تنفيذ خطة أمنية لإقامة بيروت الكبرى، وتشكيل هيئة تأسيسية لوضع مشروع دستور جديد للبلاد.
وفي منتصف نيسان، اتفق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، فتشكلت هذه الحكومة برئاسة رشيد كرامي وعضوية كميل شمعون وعادل عسيران، وسليم الحص ونبيه برّي ووليد جنبلاط وبيار الجميل وجوزيف سكاف وعبد الله الراسي وفيكتور قصير.