بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 كانون الأول 2018 12:00ص من حكايا لبنان السياسية سركيس: أراد عهده آمالاً فحوّلها السادات آلاماً بزيارته للقدس المحتلة

الياس سركيس الياس سركيس
حجم الخط
في 18 تشرين الأول 1976 انهت القمة السداسية العربية التي حضرها كل من مصر وسوريا وفلسطين والكويت والسعودية أعمالها وأذيع اتفاق الرياض، وكان اتفاقاً معدلاً لأوراق العمل المصرية والفلسطينية واللبنانية المشتركة، وتوصل مؤتمر القمة السداسي، بعد اجتماعين لرؤساء الوفود، واجتماعين لوزراء الخارجية وسلسلة لقاءات ومصالحة ثنائية وثلاثية إلى ما يمكن وصفه بأنَّه خطوة إلى الأمام على طريق حل الأزمة اللبنانية - الفلسطينية والأزمة السورية - الفلسطينية.
في هذه القمة تقرر انشاء قوات الردع العربية بإشراف الرئيس الياس سركيس، ووقف القتال في صورة نهائية والالتزام به التزاماً كاملاً من جميع الأطراف، وفتح جميع الطرقات والمعابر، كما قرر المؤتمر الالتزام بإزالة آثار النزاع المسلح والأضرار التي حلت بالشعبين اللبناني والفلسطيني. وتنفيذ اتفاق القاهرة وملاحقه، وتقرر تأليف لجنة تضم السعودية، مصر وسوريا والكويت لتنفيذ الاتفاق المذكور وأعطيت مهلة 90 يوماً من تاريخ إعلان وقف إطلاق النار لتنفيذ المهمة. وتكرست هذه الاتفاقية في القمة العربية الموسعة التي عقدت في القاهرة يومي 25 و26 تشرين الأول 1976.
وإذا كانت دول عربية عدة شاركت في هذه القوات إلاّ أن عصبها الأساسي كان يعتمد على الجيش العربي السوري، ويعتبر كريم بقرادوني إن إنشاء قوات الردع العربية كان الغطاء العربي لوجود القوات السورية في لبنان.
ابتداءً من شهر تشرين الثاني، ساد الهدوء لبنان، وانصرف الرئيس سركيس إلى لملمة أشلاء الدولة وتركيب مؤسساتها، وفي مقدمتها الحكومة الجديدة، بيد أن هذه الفترة لم تخل أيضاً من بعض الخروقات الأمنية، والمواقف السياسية المتناقضة لتعزيز الحصص في التسوية، وإذا كان الرئيس سركيس أراد أن تكون حكومته الأولى برئاسة الرئيس رشيد كرامي، فإنَّ الظروف لم تسمح له، فصدرت في 9 كانون الأول 1976 مراسيم تشكيل حكومة من التكنوقراط، مؤلفة من ثمانية وزراء على رأسهم الدكتور سليم الحص الذي جاء إلى رئاسة الحكومة من خارج نادي رؤساء الوزارة ومن خارج اللعبة السياسية، وجاء تشكيل هذه الحكومة على النحو الآتي:
عن السنة: د. الحص. رئيساً للوزراء، ووزيراً للإقتصاد والتجارة، الصناعة والنفط، والإعلام. أمين البرزي: للأشغال العامة والسياحة.
عن الموارنة: فريد روفايل: للعدل، المال والبرق والبريد والهاتف. 
ميشال ضومط: للتصميم.
عن الدروز: صلاح سلمان وزيراً للداخلية، والإسكان.
عن الشيعة: إبراهيم شعيتو: وزيراً للصحة والموارد المائية والكهربائية.
عن الأرثوذكس: فؤاد بطرس نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية والدفاع.
عن الروم الكاثوليك: د. أسعد رزق وزيراً للشؤون الاجتماعية والتربية الوطنية والزراعة.
ويؤكد العميد غابي لحود أن الرئيس سركيس «إنزعج لعدم قدرته على المجيء برشيد كرامي رئيساً للوزراء، وكان صعباً على كرامي أن يتقبل أن الرئيس هو سركيس ولا يكون هو رئيساً للحكومة وبينهما علاقة وطيدة وقدرة أكيدة على بلورة لغة مشتركة. وكان سركيس يحلم باستعادة الصيغة التي اعتمدها فؤاد شهاب أي كرامي رئيساً لحكومة تضم كمال جنبلاط وبيار الجميل معاً، وكأنه كان يحلم بترميم المعادلة اللبنانية التي ضربتها الحرب.
بدأ الرئيس سركيس وحكومته وكأنَّه في سباق مع الوقت لتثبيت حكمه وانطلاق ورشة إعادة إعمار لبنان، لكن هذا الهدوء لم يدم طويلاً.
ويقول كريم بقرادوني إنه في مطلع العام 1977 التقى بأبي حسن سلامة الذي قال له إن «أبو عمار يرى أن الهدوء الحالي مؤقتاً ولسنا في نهاية الأزمة بل في أولها». ويلفت بقرادوني هنا إلى أن هذا اللقاء كان الأخير له مع أبي حسن سلامة، وهو كما يقول: «كنت قد فهمت تلميحاً من بشير الجميل إن أبا حسن مطلوب من المخابرات الإسرائيلية، فأوصلت إليه تحذيري حول احتمال تعرضه للاغتيال، ودعوته عبر صديقنا المشترك أنطوان شادر الذي أبلغ زوجته جورجينا رزق بالأمر قبل ثلاثة أيام فقط من عملية الاغتيال إلى اتخاذ إجراءات لحماية نفسه، ولا أعرف حتى اليوم ما إذا كان بشير قد أطلعني على هذا الأمر سهواً أم أنه تعمد إبلاغي كي أوصل الخبر إلى صديقه أبو حسن».
في مطلع شهر كانون الثاني 1977، توّحد مسلحو الميليشيات المسيحية بقيادة بشير الجميل وأطلق عليها لاحقاً إسم «القوات اللبنانية» وفي خضم هذه التطورات كان لافتاً موقف النائب كمال جنبلاط الجديد من الرئيسين الياس سركيس والدكتور سليم الحص حيث دعا في تصريح له في الثالث من شهر شباط إلى «التعاون مع الرئيس سركيس الذي يعمل بإخلاص وتعاون كلي من أجل الانتقال بلبنان نهائياً إلى حالته الطبيعية».
وأكد جنبلاط أن الرئيس سركيس أثبت من خلال ممارسته أنه جدير بالحكم وتحمل المسؤولية، وأنه يتحرك بوطنية وبذكاء لم نعهدهما عند أي مسؤول آخر.
وأثنى جنبلاط «على الصفات الحميدة التي يتمتع بها رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص»، واعتبر أن «تجربته في الحكم يحتاج إليها اللبنانيون في عملية تجديد الدولة وكشف المواهب والقدرات»، وقال أن الرئيس الحص برهن على أنه يتمتع بكفاءة عالية»، هذا الموقع الجنبلاطي لم يتسن له أن يتطور أكثر لأنه اغتيل في شهر آذار 1977، وأحزن اغتياله الرئيس سركيس كثيراً، ويقول غابي لحود عن مكانة جنبلاط عند سركيس: «لم يتمكن الرئيس سركيس من المجيء بكمال جنبلاط وزيراً بسبب المواجهة التي قامت بين سوريا والحركة الوطنية، وحزن سركيس كثيراً لاغتياله، فقد درج على اعتباره أحد أعمدة التركيبة اللبنانية، وكان يدرك قدرته على لعب دور صمام الأمان حين يقتنع بهذا الدور».
سباق الرئيس سركيس مع الوقت لتكريس السلام في لبنان كان دائماً يواجه تحديات خطيرة، ففي شهر أيار 1977، وقع الصدام الأول بين «القوات اللبنانية» و«الجيش السوري» في قرية بلّا في الشمال لتتصاعد بعده كما يقول كريم بقرادوني «الصدامات تدريجياً».
في الوقت الذي كانت تتصاعد فيه تهديدات القوات الإسرائيلية التي قصفت في شهر تشرين الثاني 1977 بواسطة المدفعية الثقيلة مدينة صور والمخيمات الفلسطينية وقرى شيحين وطير حرفا ومجدل زون وجبين وأم التوت، فسقط أكثر من 75 قتيلاً من المواطنين، كما نفذت في اليوم التالي لعدوانها غارات جوية ضد مدينة صور والمخيمات الفلسطينية فأوقعت أكثر من 60 قتيلاً و120 جريحاً، ودمرت بلدة العزية تدميراً كاملاً بشكل أثار ذهول المسؤولين في الصليب الأحمر الدولي. على أن المحطة الأخطر في كل هذه التطورات كانت زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس المحتلة في 19 تشرين الثاني 1977، إذ كانت هذه الزيارة بالنسبة إلى لبنان زلزالاً، مما دفع سوريا كما يؤكد غابي لحود إلى «إعادة تقويم حساباتها على الساحة اللبنانية»، والتقت دمشق مجدداً مع منظمة التحرير، ولم تعد الدولة قادرة على ضبط المقاومة، وفقدت بالتالي قدرتها على ضبط خصومها، فشعر الرئيس سركيس بأن زيارة السادات نسفت حلمه بأن يكون رئيس الحل ولم تبق له غير مهمة إدارة الأزمة».
في هذا الوقت ازداد الدخول الإسرائيلي على خط الأزمة اللبنانية، فنفذت القوات الإسرائيلية في آذار 1978 عدواناً واسعاً على جنوب لبنان، نفذته تحت إسم «عملية الليطاني»، وتقدم لبنان بشكوى ضد إسرائيل إلى مجلس الأمن الذي أصدر القرار رقم 425 الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي اللبنانية التي احتلتها دون قيد أو شرط، كما تقرر ادخال قوات الطوارئ الدولية إلى الجنوب اللبناني، لكن إسرائيل لم تمتثل للإرادة الدولية، بل قامت بتنصيب الرائد سعد حداد مسؤولاً عن المنطقة التي احتلتها.
في غضون ذلك، عاد الوضع الداخلي إلى التوتر فسقط النائب طوني سليمان فرنجية ضحية اغتيال اعتبره الرئيس سركيس، على حد قول غابي لحود «كارثة على الموارنة والدولة والوطن»، وكان محقاً في القلق من نتائجها البعيدة» وهي تسببت على حد قول كريم بقرادوني في «أول انقسام دموي بين موارنة الشرقية وموارنة الشمال»، وهزت الطائفة المارونية تجربة ثانية هي عملية الصفر التي أدت في 7 تموز 1980 إلى تصفية التنظيم العسكري لحزب الوطنيين الأحرار.
وطوال الحرب الأهلية، كانت الخلافات بين الميليشيات المختلفة في كل منطقة تصل أحياناً إلى حد الصدام المسلح، دون أن تستطيع القوى الشرعية التدخل لحسمها، مع العلم أن بعض هذه الخلافات كان يكشف عنها، فيما البعض الأخر يجري التستر عليه، وقد لخص ذلك جوناثان راندل الصحافي الأميركي الذي غطى معظم أخبار المناطق التي حدثت فيها حروب، وكان يغطي أحداث لبنان في العامين 1975 و1976، ومن العام 1977 حتى 1982، فكتب: «طوال الحرب الأهلية، كان المسيحيون يتستَّرون دائماً على منازاعاتهم، أكثر مما كان يفعل المسلمون والدروز في غربي بيروت، حيث تتالت خلافاتهم ومشاكلهم وتفجيراتهم، فكانت جزءاً من الحياة هناك، أما النزاعات المسيحية التي كانت تحصل من وقت إلى آخر فكانت توصف بأنَّها أعمال عاطفية ولا علاقة لشمعون أو الجميل بها.. وأخيراً في يوم الاثنين الواقع فيه السابع من تموز سنة 1980، هاجمت «القوات اللبنانية» التابعة لبشير الجميل ثكنات شمعون وموانئه ومكاتبه ومعاقله الأخرى».
وكما يقول راندل: «كان بشير وضباطه قد حددوا موعداً لبدء الهجوم مع انبثاق الفجر عند الساعة الرابعة صباحاً، غير أنهم بسبب ما واجهوه من احراج في إهدن في الماضي، قرروا الامتناع عن استخدام عنصر الاثارة في المباغتة وفضلوا أن يكون الموعد عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً، إذ في هذا الوقت يكون قائد ميليشيا النمور المهندس داني شمعون قد غادر منزله على شاطئ البحر في صفرا مارينا ليذهب إلى عمله في مشروع الاصطياف في الجبل».
وفي أي حال، فقد تمت تصفية نمور الأحرار، وتوحدت البندقية في الشرقية تحت قيادة بشير الجميل.
وفي العام 1980، كانت وجهات النظر تزداد اتساعاً بين الرئيسين الياس سركيس وسليم الحص، فاستقال هذا الأخير، ليكلف رئيس الجمهورية الرئيس تقي الدين الصلح بتأليف الحكومة الجديدة، لكنه عجز عن المهمة، فاعتذر عن تشكيل الحكومة، فكلف رئيس المجلس الإسلامي والوزير والنائب السابق شفيق الوزان برئاسة الحكومة الجديدة التي ظل الثابت الوحيد فيها نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية فؤاد بطرس.
وفي شهر نيسان 1981، انفجر الوضع في زحلة بين «القوات اللبنانية» و«القوات السورية» وتفاقمت الأوضاع وكادت أن تتحول إلى مواجهة سورية - إسرائيلية، ونشأت ما سميت أزمة الصواريخ، وأرسلت الولايات المتحدة الوسيط الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب في محاولة لنزع فتيل الأزمة التي انتهت فعلاً في الثاني من تموز 1981، بعد تدخل سعودي فاعل قضى بانسحاب عناصر «القوات اللبنانية» من غير سكان زحلة من المدينة، وعودة «القوات السورية» إلى مواقعها قبل اندلاع الأزمة.
وفي أوائل كانون الثاني 1982، كما يقول كريم بقرادوني «جاء إليه فادي الصفدي موفداً من أبي عمار وأبي جهاد ليدرس معي إمكانية صياغة علاقات جديدة بين «الكتائب» و«القوات اللبنانية» و«منظمة التحرير الفلسطينية» التي بدأت تعيش هاجس اجتياح إسرائيلي للجنوب، فاقترحت عليه أن يتم اجتماع سري بين بشير الجميل، وياسر عرفات، وكلف بشير إيلي حبيقة، رئيس جهاز الأمن لديه آنئذٍ، بأن يحضر الترتيبات مع فادي الصفدي، فتمَّت الترتيبات ولم يتم اللقاء بسبب الخلافات داخل المنظمة بهذا الشأن».
مع بداية عام 1982 كان كل شيء ينذر بأنَّ لبنان سيبقى في مهب العاصفة، وسط ميليشيات مختلفة تزداد قوة، ودولة ووطن يتجه نحو المجهول، وسلطة تزداد ضعفاً وتخاف على المصير، وأطماع إسرائيلية خطيرة.