بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 آذار 2019 12:00ص من حكايا لبنان السياسية.. قصة الحوار في لبنان منذ العام 1697 الحلقة الخامسة

1970- 1982.. حوارات في الطريق المسدود وسط الدم والدموع والآلام

حجم الخط
تجارب الحوار اللبناني - اللبناني منذ الاستقلال عام 1943 لم تكن كلها إيجابية، حتى أن بعضها كان إيذاناً بتدهور الأوضاع في البلد الصغير. وبعد أن عرضنا لتجارب حوار اللبنانيين منذ العام 1936 حتى العام 1970، بإيجابياتها وسلبياتها، ماذا أنتج اللبنانيون من تجاربهم ولقاءاتهم الحوارية منذ العام 1970 حتى العام 1982؟
مع وصول الرئيس سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية في العام 1970، بدت الأمور وكأنها تؤذن بولادة مرحلة جديدة وواعدة، لكن التطورات الدراماتيكية حالت دون ذلك، حيث كانت المؤشرات تدل على أن لبنان والمنطقة يدخلان مرحلة جديدة من التأزم مع حصول سلسلة من التطورات السلبية كان أبرزها:
- إندلاع الأزمة الفلسطينية - الأردنية الدامية عام 1970، ثم إنهاء الوجود العسكري والسياسي للمقاومة الفلسطينية في الأردن عام 1971 وانتقال عمل المقاومة بثقله السياسي والعسكري الى لبنان، ثم كان العدوان الاسرائيلي الواسع النطاق على العرقوب عام 1972.
- وفاة الزعيم العربي جمال عبد الناصر في أيلول 1970، مما أفقد لبنان صديقاً عربياً كبيراً، كان الزعيم العربي الوحيد القادر على ضبط الأوضاع، لتبقى الأوضاع على وتيرتها التصاعدية المتميّزة بحدة الانقسام الداخلي والتي كانت تترافق باعتداءات اسرائيلية تُرجمت في 01 نيسان 1973 باغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة أبو يوسف النجار، كمال عدوان، وكمال ناصر، فكان أن استقالت حكومة الرئيس صائب سلام، التي أعقبتها اشتباكات عنيفة بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية في ضواحي بيروت ليزداد الأمر تعقيداً، مع تطور هذه الاشتباكات الى أزمة حكم، بعد تكليف الرئيس فرنجية النائب أمين الحافظ بتشكيل حكومة جديدة لم تدم سوى أيام قليلة جداً.
بدء سياسة العزل والفيتو
في 25 تموز 1973، شكّل الرئيس تقي الدين الصلح حكومته الجديدة من 22 وزيراً، وكانت الأكبر في تاريخ لبنان، لأنه أرادها أن تكون ممثلة لأكبر قدر من الاتجاهات السياسية في لبنان، ولهذا أطلق عليها حكومة كل لبنان. غير أن هذه الحكومة ولدت بعد أخذ ورد طويلين وفيتوات متبادلة، كان أبرزها وضع فيتو على تسلّم كمال جنبلاط وزارة الداخلية، فكان الحل الوسط بتولي مسؤولية هذه الوزارة من قبل النائب بهيج تقي الدين، الذي كان قد تصالح مع كمال جنبلاط قبل انتخابات العام 1972، إثر الخلاف الذي وقع بين الاثنين بعد انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1970 حيث أيّد تقي الدين المرشح للرئاسة الياس سركيس خلافاً لرغبة جنبلاط بتأييد الرئيس فرنجية. 
.. واندلع اللهيب 
ظلّت الأمور على وتيرة مرتفعة من التصعيد بحيث صارت الساحة مهيّأة للانفجار، وكانت بداية فتيلها في شهر كانون الثاني 1975 بالعدوان الاسرائيلي الواسع على الجنوب، ثم اغتيال المناضل الوطني معروف سعد في شهر شباط، وفي 13 نيسان انفتح ميدان الحرب إثر شرارة بوسطة عين الرمانة، التي حاول الرئيس فرنجية معالجتها بتأليف حكومة عسكرية برئاسة العميد المتقاعد نور الدين الرفاعي في 23 نيسان، لكنها انهارت بعد ثلاثة أيام فقط، لتبقى الأزمة الدموية في سباق مع الرعب والموت الذي يحصد الناس.. والوقت أيضاً. 
وفي 28 أيار كلّف الرئيس رشيد كرامي بتشكيل الحكومة الجديدة، فأصرّ كمال جنبلاط والقوى الوطنية والتقدمية على إبعاد حزب الكتائب عن الحكومة، فيما أصرّ حزبا الكتائب والوطنيين الأحرار على المشاركة، وفي النهاية شكّلت حكومة جديدة استبعد عنها أي ممثل لجنبلاط أو للكتائب. 
لم يحل قيام الحكومة دون تطور الاشتباكات وتعددت الأصوات المطالبة بالحوار الوطني، فكان أن أعلن الرئيس كرامي عن تشكيل هيئة الحوار الوطني في 24 أيلول وتألفت من شخصيات تمثل مختلف القوى والتوجهات السياسية والاجتماعية في البلاد، بغية الوصول الى اتفاق علّه يشكّل مدخلاً صالحاً لحل الأزمة المتفاقمة. 
وعقدت هذه الهيئة أول اجتماع لها في 25 أيلول وأجمع الأعضاء على ضرورة إعادة الأمن والحياة الطبيعية الى لبنان والتمسك بصيغة التعايش ووحدة الشعب والأرض وطناً للجميع، كما شكّلت لجان مختلفة لوضع تصوّر لإصلاح سياسي ودستوري في البلاد، كان أبرزها لجنة الاصلاح السياسي، لكن كل ذلك لم يحل دون مزيد من تدهور الأوضاع حيث مورست أبشع أنواع عمليات الخطف والقتل والدمار. وبعد عدة لقاءات واجتماعات سواء لهيئة الحوار أو للجان المختلفة، عقدت هيئة الحوار الوطني اجتماعاً في 24 تشرين الثاني فتغيّب عنه كميل شمعون وكمال جنبلاط، مما دفع الرئيس صائب سلام والعميد ريمون إده للانسحاب منه، فانفرط عقد الهيئة نهائياً من دون أن تتمكّن من التوصل الى أي نتيجة. 
يُذكر أنه في الرابع من تشرين الأول من عام 1975 كانت قد عُقدت قمة إسلامية - مسيحية في بكركي ثم في دار الفتوى، وكان الجو رائعاً، كما خرجت بتوصيات إجماعية تؤكد التمسّك بصيغة العيش المشترك والسيادة الوطنية ورفض التقسيم، كما دعت الدولة الى استعجال الاصلاح واستعمال أقصى ما يخوّلها إياه القانون، لكن كل ذلك لم يؤدِ الى التهدئة، فاستمرت الأوضاع على تدهورها. 
جبهات.. وتحالفات 
خلال ذلك استمرت ولادة الجبهات السياسية المختلفة، ففي 13 كانون الثاني 1976 أُعلنت ولادة جبهة الحرية والإنسان في الكسليك، بعد أن كانت الحركة الوطنية اللبنانية قد أعلنت في السابق قيام صيغة ائتلافية للقوى والأحزاب والحركات الوطنية والتقدمية اللبنانية تحت اسم المجلس السياسي المركزي، وفي ما بعد تحوّلت جبهة الحرية والإنسان الى الجبهة اللبنانية، وفي 11 تموز 1976 أُعلن عن ولادة جبهة الاتحاد الوطني التي ضمّت الرؤساء: رشيد كرامي، صائب سلام، أحمد الداعوق ورشيد الصلح، النائب مخايل الضاهر، النائب ألبير منصور، أمين بيهم، الدكتور نجيب قرانوح وغيرهم من الشخصيات، ولاحقاً ولدت الجبهة القومية في مواجهة المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية برئاسة كمال شاتيلا. وبالرغم من أن سنة 1976 حفلت بعدة تطورات من أبرزها إعلان الرئيس سليمان فرنجية للوثيقة الدستورية في شهر شباط وانقلاب عزيز الأحدب في آذار، والمطالبة بتقصير ولاية الرئيس فرنجية بواسطة عريضة وقعها 66 نائباً، ثم انتخاب الرئيس الياس سركيس لرئاسة الجمهورية الذي كان قد سُبق بحرب الثكنات وانقسام الجيش اللبناني، إلا أن الأوضاع الدامية استمرت على تدهورها ولم تفلح كل محاولات الحوار التي سعى إليها على المستوى الداخلي أم على المستوى العربي والدولي، فشهدت هذه المرحلة مزيداً من اتساع الحرب ولم تنجح مساعي التسوية، وتمّت حركة تهجير واسعة من كل المناطق بالرغم من كل التدخلات. 
العرب.. يأتون بالسلام
في مطلع شهر أيلول عقد وزراء الخارجية العرب اجتماعاً طارئاً قرروا بموجبه عقد قمة خاصة بالأزمة اللبنانية في النصف الثاني من شهر تشرين الأول، فعقدت في القاهرة، ثم تحوّلت هذه القمة الى قمة سداسية عُقدت في الرياض في 18 تشرين الأول وضمّت كلاً من: مصر، سوريا، فلسطين، الكويت، المملكة العربية السعودية، ولبنان، فتقرر في هذه القمة حلّ الأزمة اللبنانية، وتقرر إنشاء قوات الردع العربية، ووقف القتال في صورة نهائية والالتزام به التزاماً كاملاً من جميع الأطراف، وفتح جميع الطرقات والمعابر، كما قرر المؤتمر الالتزام بإزالة آثار النزاع والأضرار التي حلّت بالشعبين اللبناني والفلسطيني، وتنفيذ اتفاق القاهرة وملاحقه.
.. وانفرط العقد
في مطلع شهر كانون الثاني 1977، توحّد مسلحو الميليشيات المسيحية بقيادة بشير الجميّل تحت اسم «القوات اللبنانية»، وفي الثالث من شباط حدث تطوّر هام في موقف كمال جنبلاط بشأن تأييده الرئيس سركيس، حيث أعلن أن «سركيس يعمل بإخلاص من أجل الانتقال بلبنان بصورة نهائية الى حالته الطبيعية»، لكن هذا الموقف الجنبلاطي لم يتسنَ له أن يتطوّر أكثر لأنه اغتيل في شهر آذار 1977. 
كان سباق الرئيس سركيس لتكريس السلام في لبنان يواجه تحديات خطيرة، بتمسّك كل طرف بموقفه، ولم يستطع الحوار اللبناني - اللبناني أن يتقدم، وفي شهر أيار وقع الصدام الأول بين القوات اللبنانية والجيش السوري في قرية 
«بلا» بالشمال، لتتصاعد بعده الصدامات تدريجياً والتي كانت تترافق مع تصعيد الاعتداءات الاسرائيلية، على أن المحطة الأخطر كانت في 19 تشرين الثاني 1977 حينما زار الرئيس المصري أنور السادات القدس المحتلة، فكانت هذه الزيارة بالنسبة الى لبنان زلزالاً قلب الكثير من المعادلات، تُوّجت في 14 آذار عام 1978 بعدوان اسرائيلي واسع على الجنوب تحت اسم «عملية الليطاني»، وأعلنت على أثره تل أبيب تنصيب الرائد سعد حداد مسؤولاً عن المنطقة التي احتلتها. لتتصاعد وتيرة الصدامات الداخلية، ففي حزيران 1978 اغتالت «القوات اللبنانية» النائب طوني فرنجية وزوجته وابنته، كما هزّت الطائفة المارونية تجربة ثانية هي عملية الصفرا التي أدت في 7 تموز 1980 الى تصفية التنظيم العسكري لحزب الوطنيين الأحرار. وطوال الحرب الأهلية لم تنفع كل محاولات الحوار، وكانت الخلافات في كل منطقة تصل أحياناً الى الصدام المسلّح، والحوار الذي كان يعقبه هدوء مؤقت لم يكن أبداً من صنع اللبنانيين، بل كان نتيجة تدخلات ومساع عربية. واستمر الوضع على هذا الشكل التراجيدي حتى مطلع حزيران عام 1982، حيث كان العدوان الاسرائيلي الواسع على لبنان والذي تُوّج باجتياح العاصمة بيروت، وكان ذلك إيذاناً بدخول الصراع في لبنان مرحلة جديدة شهدت مزيداً من القتال والنزيف الداخليين، الذي كان دائماً يرافق بحوار وحوار داخل وخارج لبنان، لكنه لم يؤدِ الى نتيجة، فظل السلام بعيداً.