بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 كانون الأول 2022 12:00ص من يقي الشعوب شر إرهاب الدول والسلطات الحاكمة؟

حجم الخط
لم ينجح المُجتمع الدَّولي لغايَةِ تاريخِهِ في اعتِمادِ تعريفٍ مُوحَّدٍ جامِعٍ مانِعٍ للإرهاب، يقومُ على مِعيارٍ مَوضوعِيٍّ مُجَرَّد، يمكنُ من خِلالِهِ التَّعامُلُ مع الظَّاهِرَةِ الإرهابِيَّةِ وَفقَ مَعاييرَ مُتَجَرِّدَةٍ جليَّةٍ باعتِبارِها سُلوكاً إجرامِيَّاً كما هو الحالُ في التَّعامُلِ مع باقي الجَرائم، بحيثُ يُصارُ إلى توصيفِها أولاً ومن ثم إلى التَّحقُّقِ من مَدى قِيامِ الجَريمَةِ الإرهابيَّةِ من خِلالِ مُقارَنَةِ التَّوصيفِ المُعتمَدِ لها مع السُّلوكِيَّاتِ المُقترَفَةِ على أرضِ الواقِع (فعل أم امتناع عن فعل)، والتَّحقُّقِ من توفُّرِ عَناصِرِ رُكنَيها «المادي والمعنوي». وتُعزى أسبابُ الفَشَلِ في الوصولِ إلى تَعريفٍ مُوَحَّدٍ للإرهابِ على المُستوى الدَّولي إلى اختِلافِ المُقارباتِ التي تَعتمِدُها الدُّولِ في فَهمِها لمُصطلَحِ الإرهاب، والذي يقومُ على سُلوكِيَّاتٍ تنطوي على عُنفٍ غير مُبرَّر ابتغاءً لمآرِبَ خاصَّةٍ مُعيَّنَة. وخاصَّةً أن الدُّولَ المُؤثِّرَةِ على السَّاحَةِ الدَّوليَّةِ وجَدَت في هذا التَّبايُنِ فرصةً سانحةً لتَحقيقِ أغراضٍ سِياسِيَّةٍ تتوافَقُ مع توجُّهاتِها على السَّاحَةِ الدَّولِيَّة.
أدّى هذا التَّبايُن في المواقِفِ الدَّوليَّة تِجاه هذه الظَّاهِرَةِ إلى إرباكٍ على السَّاحَةِ الدَّولِيَّة، وحالَ دونَ التَّوافُقِ على ما يندرجُ ضمن هذا التَّوصيفِ من سُلوكِيَّات وما يَخرُجُ عنه، كما لإرباكٍ في التَّصدي للإرهابِ كظَّاهِرَةٍ إجرامِيَّةِ خَطيرَة، دفعت بعضِ الدُّولِ مُجتمِعَةً أو مُنفَرِدَةً إلى شن حروبٍ مُدَمِّرَةٍ تحت ذريعَةِ مُكافحةِ الإرهابِ بتغطيَةٍ من مَجلِسِ الأمنِ حينا، ومن دونِها أحيانَ أخرى (اجتياح كل من أفغانستان والعراق)؛ والتي ارتُكِبَ في مَعرَضِها الكثيرَ من الانتِهاكاتِ بما في ذلك الماسَّةِ بحقوقِ الإنسان، هذا بالإضافَةِ إلى جَرائِمَ أفظَعُ بكثيرِ من تلك التي زُعِمَ بأن الحربَ شُنَّت لمُكافحَتِها وملاحقةِ الضَّالعين بها، كما أسقِطَت أنظِمَةٌ ذاتُ سيادَةٍ، لتَحِلَّ من بعدِها فوضَى عارِمَةً تَسبَّبت في تفشي الإرهابِ فيها كما بالعَديدِ من الأزَماتٍ لشُعوبِ الدُّولِ المَعنِيَّةِ وبَعضٍ من الدُّوَلِ المُجاوِرَةِ لها.
ومن هنا تكمنُ أهميَّةُ المُناداةِ بضَرورَةِ اعتِمادِ مَعاييرَ موضوعِيَّةٍ مُتجرِّدَةٍ في توصيفِ السُّلوكِ الإرهابي كجريمَة يُعاقِبُ القانون عليها على غرارِ باقي الجرائمِ الخَطِرَة. والإرهابُ مُصطَلَحُ راجَ استِعمالُهُ كترجَمَةٍ للكلِمَةٍ اللاتينيَّة (Terorism). ولغوياً هو اسمُ جنس والأَصلُ فيه الرَّهبُ والفِعلُ أرهَبَ، ويُكنى مُرتكِبُ الفِعلِ بـ «إرهابي». ويُقصدُ بالإرهابِ تلك الأنشِطةُ الإجراميَّةُ التي تقومُ على عُنفِ يُستهدفُ بها الأبرياءُ لإثارةِ الذُّعرِ ونشرِ الهلعِ، بغرضِ إكراهِ عدوٍ أو خصمٍ لتبديل موقِفه من مَسألةٍ مُعيَّنة. ولكنه وإن كان لا يقومُ إلاَّ على عُنفٍ غير مُبرَّرٍ إلاَّ أن العكسَ ليس صحيحاً، إذ ليس كُل عنفٌ غير مُبرَّرٍ إرهاب، وإن انطَوى على توصيفٍ جُرمي يَحظُرُهُ القانون.
والحقيقةُ أن المصطلَح العربي الذي اعتُمِدَ في التَّرجَمَةِ وشاع استِعمالُهُ لم يَكُن موفَّقاً لِعَدَمِ توافُقِهِ مع روحيَّةِ أصلِ المُصطلحِ المُعتمدِ في اللُّغاتِ ذات الأصل اللاتيني، وذلك لأن الرَّهبَ ينبعُ من الرَّهبَةِ والذي يَنطوي على وَجلٍ مَقرونٍ بالَمَهابَةِ، وغالباً ما ينطوي على معنى إيجابي وقد ورد تعبيرُ الرهبةِ ومُشتقاتها قرابة اثنتا عشر مرَّةٍ في القرآن الكريم، وهي في الغالب تدل على تأثير إيجابي، أما المصطلَحُ العربيُّ الأصَحُّ بنَظَرِنا فهو مُصطلح «الإرعاب» ومَصدَرُهُ الرُّعبُ وقد ورَدَ هذا التَّعبيرُ قُرابَةَ خَمسِ مَرَّاتٍ في القُرآن الكريمِ ويَدُلُّ على تأثيرٍ سَلبي، لِكونِه يَعني سُلوكِيَّاتٍ تقومُ على عُنفِ غيرِ مُبرَّرٍ يُوَلِّدُ الذُعرِ نتيجَةَ ما يُثيرُهُ من خَوفَ شَديدَ مَقٌرونٍ بحالَةٍ من الهَلَعِ، ما يَضعُ الشَّخصَ المَرعوبَ بوضعِ المُكرَهِ، ما قد يَدفَعُهُ إلى تبني خَياراتٍ لا تَتوافَقَ مع توجُّهاتِهِ وقناعاتِهِ تحت تأثيرِ ما أصابَهُ من رُعبٍ يَطغى على تَفكيرِهِ ومَشاعِرِه.
وفي هذا الإطارِ سَبَقَ لنا وتبنَّينا في كتابنا المنشور عام 2011 بعنوان «الإرهاب» التَّعريفَ التالي: «الإرهابُ هو استِهدافُ أبرياءِ بعُنفٍ غيرِ مُبَرَّرٍ أو التَّهديدِ باستِهدافِهِم به، من قِبَلِ شَخصٍ طَبيعي أو مَعنوي بحُكمِ الواقِعِ أو القانون، بِغَرَضِ إثارَةِ الرُّعبِ لدى جَمعٍ من الأبرياء، لإكراهِ خَصمٍ مُعيَّن على الاستِجابَةِ لمَطلَبٍ أو أكثر، سَعياً لتَحقيقِ غايَةٍ أو غاياتٍ مُعيَّنةٍ، وبغضِّ النَّظرِ عن مَشروعِيَّةِ المَطالِبِ المُنادى بها».
وتُصنَّفُ الجرائمُ الإرهابيَّةُ وفقاً لمِعيارِ الدَّوافِع ما بين إرهاب سياسي (تحرري أو ثوري أو إيديولوجي أو أثني) وإرهابٍ غيرِ سياسي (ديني أو عقائدي أو سادي أو فوضوي)، ووفقاً لمِعيارِ النِّطاقِ الجيوسياسي تُصنَّفُ ما بين إرهاب وطني، وإرهاب دولي، ووفقاً لمِعيارِ الأدواتِ الجُرمِيَّةِ المُستعملَةِ يُصنَّف ما بين إرهاب: نووي أو بيولوجي أو كيميائي أو بالستي أو معلوماتي؛ وأهم تلك التَّصنيفاتِ المُعتمدةِ ما يقومُ على مِعيارِ طَبيعَةِ الجِهَةِ التي تَقِفُ خلفَهُ فيُصنَّف على أساسِها ما بين إرهابِ أفراد أو إرهاب جماعي، أو إرهابُ دولة أو إرهابُ السَّلطَةِ (أو الحُكَّام). وإذا كانت التَّصنيفاتُ الثلاثُ الأولى واضِحَةً نِسبِيَّاً ولا تَتَطَلَّبُ شَرحا، نرى أن التَّصنيفَ الأَخيرَ أي القائمِ على طبَيعَةِ الجِهَةِ التي تَقِفُ خلفَهُ بحاجَةٍ لشَيءٍ من التَّوضيحِ لخُصوصِيَّةِ كُلِ صِنفٍ من أصنافِها.
يُقصَدُ بإرهاب الأفراد: الأعمالُ الإرهابيَّةُ التي يرتكِبُها أفرادٌ مُختلفين في أمكِنَةٍ مُتَعدِّدَة وبتواريخَ مُتفاوِتَةٍ ضُد دُوَلٍ أو جَماعاتٍ مُعيَّنة، أو أشخاص، يُكنُّونَ لهُمُ الكراهَيَةِ أو يَعتبرونهُم أعداءَ أو خُصوم، ولكن من دون وجودِ أيِّ مُخَطَّط أو اتِّفاقٍ مُسبَقٍ في ما بين الضَّالِعينَ فيها؛ إرهابُ الجَماعاتِ أو التَّنظيمات، وهو الإرهابُ الذي تَقِفُ خَلفَهُ جَماعَةٌ مُنظَّمَةُ (شَخصٌ مَعنوِيٌّ بحُكمِ الواقِعِ أو القانونِ) تَجمَعُ في ما بين المُنضَوينَ فيها إيديلوجِيَّةٍ أو غايةٌ مُوحَّدَة، وغالباً ما تُرتَكَبُ اعتداءاتُها الإرهابيَّةُ ضمن مُخطَّطٍ مُسبَقِ الإعداد؛ إرهابُ الدَّولَةِ هو كِنايَةٌ عن الاعتِداءاتِ الإرهابِيَّةِ التي تُرتَكَبُ بواسِطَةِ أحَدِ أجهِزَةِ الدَّولَةِ الرَّسمِيَّةِ العَسكرِيَّةِ أو المُخابراتِيَّةِ أو الأمنِيَّةِ أو بعضِ الجِهاتِ التي تعملُ لِصالِحها، ويَستَهدِفُ مَصالِحِ دولةٍ أُخرى أو جِهاتٍ خارِجِيَّة؛ وأخيراً إرهابُ السُّلطَةِ ويًقصدُ به الاعتداءاتُ الإرهابيَّةُ التي تُرتكبُ بإيعازٍ من قبلِ بعضِ السُّلُطاتِ الحاكمةِ في الدَّولة، وتُنفَّذُ بواسِطةِ الأجهِزةِ العسكريَّةِ أو المخابراتيَّةِ أو الأمنيَّةِ أو بعضٍ من وحداتها أو أقسامِها، أو من قِبلِ جَماعَةٍ أو أفراد يَعملونَ لِصالِحِ بعضِ المسؤولين في السُّلطة ممن يَتمتَّعونَ بنُفوذٍ سُلطوي، وتَستَهدِفُ أيَّاً من الخُصومِ السِّياسِيين في الدَّاخِل، أو الناشِطينَ المُناوئين للحُكِمِ القائمِ أو لبَعضٍ من رُموزِه، أو ضُدَّ فئةٍ من المُواطِنينَ المُناوئينَ لمن هم في السُّلطَةِ أو لبَعضِهِم.
إن إخفاقَ المُجتمَعِ الدَّوليِّ في الوصولِ إلى تَعريفٍ مَوضوعِيٍّ مُتَجرِّدٍ للإرهابِ يُشكِّلُ بحدِّ ذاتِه مُعضِلَةً دَولِيَّةً جَوهَرِيَّة تعيقُ مكافحةَ الإرهاب، لذا ينبغي العَملُ على مُعالَجتِها في أسرَع وقت؛ ومن أخطَرِ المُعوِّقاتِ التي تَحولُ دون ذلك، تَعارُضُ المصالِحِ الدَّوليَّةِ نتيجةَ اختلافِ نَظرَةِ الدُّولِ إلى النَّشطاتِ الإرهابيَّةِ وأُطُرِ وآليَّاتِ مُكافَحتِها، ومُحاسَبَةِ الضَّالِعينَ فيها. خاصَّةً وأن بعضَ الدُّولِ تَعمدُ إلى استِغلالِ الإرهابِ لتَحقيق مآرِبَ خاصَّةٍ بها أو لِخِدمَةِ مَصالِحِها وتوجُّهاتِها. بحيث اعتمَدَت مِعيارِ التَّصنيفِ المُنحازِ بدلاً من التَّوصيفِ المُجِرَّدِ، فسَعَت إلى وَصمِ بعضِ الجِهاتِ التي تُناوئها أو التي هي على خصومةِ معها وشيطَنتِها بنعتِ كُلِّ نشاطاتِها المُحِقَّةِ وغيرِ المُحقَّةِ بالإرهاب، وتبرِئةِ جِهاتٍ أُخرى إجراميَّة، بإسباغِها ارتِكاباتِها الإرهابيَّةِ بلبوسِ المَشروعِيَّةِ، وذلكَ لمُجرَّدِ أنها راضِيَةٌ عنها، ولتواردِ المصالِحِ في ما بينهم. هذه الإزدواجيَّةُ في المَعاييرِ أدَّت وتؤدي إلى فوضى وإرباكٍ في التًّصدي للظَّاهِرَةِ والضَّالِعينَ فيها وداعِميهِم، بحيثُ تُدانُ جِهاتٌ لأفعالٍ هي من قَبيلِ الدِّفاعِ عن النَّفسِ أو عن الحُقوقِ المَشروعَة، وتُبَرَّأ جِهاتٌ ضالِعةٌ في أعمالٍ يَنطبِقُ على سُلوكِيَّاتها تَوصيفِ الإرهابِ من رأسِها لأخمَصِ قدَميها. كلُّ ذلك أدَّى إلى إلحاقِ الجَورِ والظُّلمِ بكثيرٍ من المُنظَّماتِ والأفرادِ الأبرياءِ والشُّرفاءِ وتَبرِئةِ دُوَلٍ وجَماعاتٍ إجرامِيَّةٍ إرهابِيَّةٍ وإفلاتِها من المُلاحَقَةِ والعِقاب.
وخَيرُ مثالٍ على هذا الظُّلم ردَّاتُ الفِعلِ الجائرةِ التي تَعرَّضَ لها ولم يزل يتعرَّضُ لها الشَّعبُ الفلسطيني في مَعرَضِ دفاعِه عن وطنِهِ المُغتَصَب وحُقوقِهِ المَسلوبَة من اعتِداءاتٍ إرهابيَّةٍ ارتَكبَها الكِيانُ الصَّهيوني الغاصِب، ومن قَبلِهِ المُنظَّماتُ الصَّهيونيَّةُ، والتي تنوَّعَت ما بين مَجازرٍ واغتيالاتٍ وتدميرٍ لأملاكِهِ العامَّةِ والخاصَّة وانتهاكٍ لأدنى حُقوقِهِ المَشروعة. وما تَعرَّضَت له بَعضُ الشُّعوبِ العَرَبِيَّةِ في مَعرضِ الصِّراعِ العربي - الإسرائيلي والذي اعتادت إسرائيلُ على انتهاكِ سيادَةِ دولِهِ وارتكابِ جرائمَ حربٍ أو تنفيذِ عمليَّاتٍ إرهابيَّةِ كالاغتيالاتِ وأعمالِ التَّخريبِ والتَّدمير.
وثمَّةَ ظُّلمُ يفوقُ إيلامُهُ آلامَ المُعاناة من تلك الاعتِداءات، يتمثَّلُ في مُحاولَةِ بعضِ الدُّولِ النَّافِذَةِ إلصاقَ تُهمَةِ الإرهابِ بالفِلسطينيين وهم في مَعرَضِ الدِّفاعِ عن النَّفسِ والأرضِ والعِرضِ، بتَصدِّيهم لِجيشِ الاحتِلالِ بأسلِحةٍ بدائيَّةٍ مُصنَّعَةِ مَحلِّيَّا في ظِلِّ حِصارٍ مُحكَم، أو برَميهِم الحِجارَةِ على المُعتدين دِفاعاً عن مُقدَّساتِهم وشرفِهم وكرامتهم، حتى ولو بصدورِهم العارِيَة، وإظهارِ الإسرائيليين المُتعنصرين المُنتهكين لحُقوق الإنسانِ بكُلِّ اشكالِها وصُورِها، وكأنَّهُم في حالَةِ الدِّفاعِ عن النَّفسِ ولو كانوا مُتلبسينَ بعَمَيَّاتِ إبادَةِ جَماعِيَّةٍ للشَّعبِ الفِلسطيني أو تَدميرٍ مُمنهَجٍ لمُدُنِه وقُراه ومدارسه ومستشفياته ومنازله ومزروعاتِ... الخ.. استُعمِلَت فيها أحدثُ الطائراتِ والأسلِحةِ الفتَّاكة، وأبشعُ أنماطِ القهرِ والتَّعذيب. وهذه الإزدواجيَّةٌ معتمدةٌ أيضاً في مقاربةِ التَّطاولِ الإسرائيلي على مُعظمَ الشَّعبِ العَربِي سواءَ كان في لُبنانَ أو سُوريا أو العِراقِ أو تُونُسَ أو الأردن وغيرِها من الدُّولِ والشُّعوبِ العَربِيَّة، وإن اختَلَفَت أنماطُها بقَصفٍ جَوي يَستهدِفُ المَدنيينَ أو تَخريبَ المنشآتِ الهامَّةِ أو البُنى التَّحتِيَّةِ، أو مُجرَّدِ انتِهاكٍ للأَجواءِ الوَطنيَّة، أو اغتيالاتٍ أو تَفجيراتٍ أو تدميرَ مَرافِقَ عامَّة.
ومن قبيلِ إرهابِ الدَّولةِ أو أحدَ أنماطِهِ المُستَجدَّةِ (الإرهاب بالواسطة)، ويقوم على استغلالِ دَولَةٍ للتَّنوُّعَ الإثني أو العِرقي أو الطَّائفي أو المَذهبي فيها بانتِهاكِ سِيادَتِها وإنشاءِ تَنظيماتٍ مُسلَّحَةٍ فيها وتدريبِها وتسليحِها وتزويدِها بالخُبَراءِ العَسكريين والفَنِّيين، وتَوفيرِ الدَّعمِ اللُّوجِستي والمالي لها؛ ودَفعِها لارتِكابِ اعتِداءاتٍ إرهابِيَّةٍ في ذاتِ الدَّولَةِ التي تنتمي إليها، أو للتَّعرُّضِ لمَصالِحِ دُولٍ أُخرى؛ وهذا ما حَصَلَ ويَحصَلُ في كُلٍّ من اليَمنِ والعِراق، حيثُ أنشأت إحدى الدولُ الإقليميَّةُ جِهازِيَّةً عَسكَرِيَّةً وأمنِيَّةَ مُتكامِلَةً أوكَلت إليه توجيه تلك التَّنظيماتِ المُسلَّحَةِ ومَدَّها بالأسلِحَةِ وتوفيرِ الدَّعم المالي واللوجِستي لها، واعتَمَدتها كأدواتٍ مُسلَّحَةٍ تَعمَلُ لِصالِحِها، لتَتَمكَّنُ بواسِطتِها من المُناوَءَةِ بدُولٍ وكِياناتٍ أُُخرى من دون أدلَّةٍ يمكنُ اعتِمادُها لإدانتِها بالمُباشِرِ (إرهابٌ بالواسِطة).
وثمَّةَ إرهابٌ لا يَقِلُّ عن إرهابِ الدَّولةِ خُطورةً، تتعرَّضُ له الشُّعوبُ المِسكينَةُ والمَغلوبُ على أمرِها هو إرهابُ السُّلطة، ويتمثَّلُ في الاعتِداءاتِ الإرهابِيَّةِ التي يَقِفُ خلفَها بَعضٌ من النَّافذينَ في الدَّولة، والتي تُرتًكبُ بواسِطَةِ أحدِ أجهزةِ الدَّولةِ أو جَماعَةٍ أو أفرادَ يَعملون بتَوجِيهاتٍ من أحَدِ مُكوِّناتِ السُّلطَةِ أو المَسؤولين فيها. فاقَ هذا النَّوعُ من الإرهابِ إرهابَ الدَّولةِ من حيثُ عددِ ضَحاياه خِلالَ العَقدين الأَخيرين، ووَجَدَ أرضاً خَصبَةً في الدُّولِ ذاتِ الأنظِمَةِ الدِّكتاتورِيَّةِ التوليتاريَّةِ المونوقراطِيَّة، حيثُ يَتحَّكَّمُ في السُّلطَةِ شَخصٌ مُعيَّنٌ ومن حَولِهِ مَجموعَةٌ من المُوالينَ له أو المُنتفعين منه، والذينَ لا يَتوانون عن تَنفيذِ أيٍّ من توجُّهاتِهِ ورَغباتِهِ أو ما يُمليهِ عليهِم، ولو كان يَنطَوي على مُخالَفَةٍ فاضِحَةٍ للقانون ومَبنيٌّ على نوايا إجرامِيَّةٍ آثِمَة. وخَيرُ مِثالٍ على ذلك ما حَصَلَ خِلالَ ما سُمِّيَ بثَوراتِ الرِّبيع العَربي في كُلٍّ من تُونُس ومِصرَ وليبيا، وأفظَعُها ما اقتُرِفَ وما يَزالُ يُقتَرَفُ بحَقِّ الشَّعبِ في كل من سوريا والعِراق وليبيا والسُّودان، وأخطرُ ما في هذا النَّمطِ الإرهابي ما يُرتَكَبُ من قِبلِ السُّلطَةِ الحاكِمَةِ باسمِ الدِّينِ والتَّعاليمِ الدِّينِيَّة، وبلُبوسٍ من المَشروعِيَّة الوَضعِيَّة، بحيثُ يًصارُ إلى تَخوينِ المُناوئين، ومن ثُمَّ اتِّهامُهُم بالعَمالَةِ للخارِجِ، أو بالسَّعي للنَّيلِ من سيادَةِ الدَّولَةِ وهَيبتِها، أو إثارَةِ الفِتَنِ الدَّاخليَّةِ أو زَعزَعَةِ الاستِقرارِ السِّياسي، والإخلالِ بمُقتضياتِ السِّلمِ الأهلي أو بمُرتَكزاتِ الأَمنِ القَومي، وذلك تَمهيداً للتَّخلُّصِ منهم جَسَدِيَّا بتدبيرِ حَوادِثَ مَشبوهَةٍ للتَّخَلُّصِ منهم في ظُروف غامِضَة، أو باغتيالِهِم مُباشَرَةً أو من خِلالِ إصدارِ أحكامٍ صَوَرِيَّةٍ تَقضي بإعدامِهِم بنتيجَةِ مُحاكَماتٍ عُرفِيَّةٍ بأيٍّ من التُّهمِ السَّابقَة، أو إزاحَتَهُم بإبعادِهم خارجَ البلادِ أو رميهِم في أقبِيَةِ المُعتَقلاتِ المُظلِمَةِ أو في غُرفِ السُّجونِ العَفِنَة.
إن التَّصدي لإرهابِ الدَّولةِ يَقعُ على عاتقِ المُجتمَعِ الدَّولي برُمَّتِه، من خِلالِ منظَّمةِ الأُمَمِ المُتَّحِدَة، والمُنظَّماتِ والمجالِسِ والهيئاتِ والوكالاتِ التَّابِعَةِ لها، وبالتَّحديدِ مَجلِسِ الأمن المَعني بالمقامِ الأوَّلِ بالحِفاظِ على الأمنِ والسِّلمِ الدَّولِيين، ورَغمَ ذلك نَجِدُهُ يَقِفُ مَكتوفَ الأَيدي عن الاعتِداءاتِ الإرهابِيَّةِ الإسرائيلِيَّةِ وغَيرِها من الدُّولِ القائمةِ على العُنفِ والإجرام. في المُقابلِ ينطوي التَّصدي لإرهابُ السُّلطةِ على إشكاليَّةٍ شائكةٍ في كونِه إرهابٌ داخلي مَحمِيٌّ من السُّلطاتِ الحاكِمَةِ أو من بَعضِها؛ وللأسفِ تُستَغَلُّ بعضُ المَفاهيمِ والأعرافِ والمَبادِئِ التي تحكُمُ العلاقاتِ الدَّولِيَّةِ لحِمايَةِ الضَّالِعين فيه؛ منها المبدأ القائلُ بسيادَةِ الدولةِ على إقليمِها، وعَدمِ جوازِ التَّدخُّلِ في الشؤونِ الدَّاخليَّةِ لدولةٍ ذاتُ سِيادَة، وتمتُّعِ الحُكَّامِ بحَصاناتٍ سِياَسِيَّةٍ دوليَّةٍ ومَحلِّيِّة؛ وثمَّةَ قطبةٌ مَخفيَّةٍ تَكمُنُ في تفصيلِ النًّصوصِ الدُّستوريَّةِ والقانونيَّةِ أو تفسيرِها على نحوٍ يجعلُ كِبار المسؤولين في الدَّولةِ بمنأى عن المُساءَلَةِ السِّياسِيَّةِ والمُلاحَقَةِ القَضائيَّة، وكيفَ الحالُ إن أضفنا إلى كُلِّ ذلكَ أنَّهُ يَسهُلُ على الضَّالِعينَ في هذا النَّوعِ من الإرهابِ طَمسَ مَعالِمِ جرائمهم وإخفاءِ أدلَّتِها، وإبقاءِ الضَّالِعين فيها ومنفِّذيها غيرِ مَعروفي الهويَّةِ أو بمنأى عن العِقاب، مُستغلينَ نفوذَهم الدَّاخلي، من خلالِ التأثيرِ على الجهازِ القَضائي والأجهِزَةِ العَسكَرِيَّةِ والأمنِيَّة.
وتُشيرُ كُلُّ المُعطياتِ المُتوفِّرةِ إلى أن عدداً من دولِ مِنطَقَةِ الشَّرقِ الأوسَطِ ستكون في المَدى المَنظورِ أمامَ خَضَّاتٍ سِياسِيَّةٍ داخِلِيَّةٍ عنيفةٍ، ومن المُتوقَّعِ أن تدورَ رُحى الصِّراعاتِ فيها ما بينَ ثَوراتٍ تَحرُّريَّةٍ واعِدة وأخرى راديكاليَّةٍ مُستحكِمَة. وثمَّةَ مُؤشِّراتٌ كثيرَةٌ يُستدلُّ منها على أن بعضِ الصِّراعاتِ لم تَخمُدُ نيرانُها بعد، وبَعضٌ ثانٍ لم يزل جَمرُها تحت الرَّماد منذُ ما سُمِّيَ بالرَّبيعِ العَربي، وبعضٌ ثالثٌ شرارتُها انطلَقت حديثا، وبعضٌ رابعٌ في طورِ الانتظار؛ وكُلُّها تُوحي بأننا سَنَشهَدُ سَفكاً لدِماءِ الكثيرِ من الأبرياء، من هنا نرى أن المُجتَمَعَ الدَّولِيَّ مَطالَبٌ، وقَبلَ فَواتِ الأوان، باعتِمادِ أُطُرٍ وآليَّاتٍ دولِيَّةٍ تحت مِظلَّةِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ تَقي المُواطِنين من جُنوحِ كِبارِ المَسؤولين في السُّلُطَةِ والنَّافذينَ فيها نحوَ الإرهابِ واعتِمادِهِ وسيلةً لقَمعِ الحُريَّاتِ وكَمِّ الأفواه.