بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 نيسان 2021 12:02ص «منظمة العمل الشيوعي».. تحديث بـ«اللحم الحيّ»

حجم الخط
لم يكن غياب محسن إبراهيم حدثا عاديا بالنسبة الى «منظمة العمل الشيوعي». هو الدأب نفسه منذ التأسيس قبل خمسين عاما. لا يزال طَيف أبو خالد حاضرا منذ وفاته التي تصادف بعد أسابيع ذكراها الاولى التي يعمل رفاقه على إحيائها بوجهها المثالي.

لطالما اختصر المؤسس منظمته حتى يخيل الى كثيرين تهيب أي خليفة وراثته. والواقع ان المنظمة كانت احدى محطات الرجل في حياته الوافرة سياسة ونضالا بأدواره الوطنية والفلسطينية والعربية، قبل الانكفاء الطوعي الذي فرضه على مولودته قبل سنوات طويلة نتيجة عوامل دولية كبيرة وعربية ولبنانية منها انهيار المعسكر الاشتراكي.

لا تملك الاجيال الحالية ربما فكرة عن تاريخ المنظمة وخاصة في سنوات وهجها في السبعينيات من القرن الماضي. ويبدو غريبا كيف تراجع حضورها سريعا منذ العام 1982 وصولا الى اعلانها خروجها الذاتي من الحرب الاهلية العام 86 والتي رآها إبراهيم عبثية، قبل انكفاء غريب بعد ظهور وجيز في التسعينيات.

قد يكون العام الحالي مفصليا في تاريخ المنظمة التي تقبل على تغيير في الاسم والجوهر بعد نصف قرن. لن يعود الزمن الى مرحلة المد القومي الذي مهد لقيادي «حركة القوميين العرب» لتأسيس منظمته، لكن رفاق أبو خالد يبدون متفائلين وسلاحهم التحديث ونزع الجمود عن يسارهم بعد تعثر التجربة.

من هؤلاء أمين سر المكتب التنفيذي زكي طه الذي يتوقف عند مراحل المنظمة ليصيغ الإجابة عن سؤال اليوم: ماذا بعد؟ 

والواقع تتعدد المراحل في السنوات التي مضت منذ التأسيس حتى اليوم. منذ البداية حتى العام 1975، عام اندلاع الحرب الاهلية الذي مهد لسنوات صعود كبير حتى العام 1982 مع اطلاق «جبهة المقاومة الوطنية». ثم الفترة الفاصلة حتى العام 86 مع اعلان الخروج من الحرب وبدء مسار المراجعة النقدية بكل اشكالياتها، ثم الفترة بين عامي 92 و98 حين محاولة التجديد وبناء مرحلة معارضة على رافعة النقابات وخاصة «الإتحاد العمالي العام». لكن الانكفاء استمر طويلا حتى العام 2015 الذي شهد عودة متدرجة متوالية الفصول وقد تشهد خاتمتها قريبا مع اعلان المؤتمر المقبل في العام الحالي الصيغة الجديدة ليسار ديمقراطي علماني مستقل «يجدد تجربة التغيير وإنقاذ البلد». 

مراجعة وانكفاء «طوعي»

بذلك يستشرف طه ملامح ما هو مقبل. لكن قبلها يتوقف عند اسباب الانكفاء. ففي فترة لم تتعد السنوات الأربع بين 88 و92، حلّت على المنطقة حربين خليجيتين وانتفاضة الفلسطينيين من الداخل والتحضير لعملية السلام العربي الاسرائيلي، وبين كل ذلك اتفاق الطائف. 

كان من الضروري اجراء مراجعة لكل التجربة بكل مضامينها الفكرية والبرنامجية والتنظيمة. ويؤكد القيادي في المنظمة ان المراجعة بدأت منذ 16 ايلول 82 في بيان «جبهة المقاومة الوطنية»، عند التمييز بين مقاومة الاحتلال ومعارضة السلطة الكتائبية وهو ما كان نقيضا للأدبيات التي كانت تربط الخصم بالصهينة. 

وقد جلبت سردية الحرب الخاصة بإبراهيم إليه خصومة من قبل كثيرين ومن بينهم اقرب الحلفاء في «الحركة الوطنية» الزعيم «الاشتراكي» وليد جنبلاط، وقد كان للمراجعة أثمان خاصة مع الدعوة العلنية الى اعادة النظر بالاساس الماركسي وهو الاساس للخط السياسي. ترافق ذلك بعدها مع انهاء التشكيلات الحزبية ومنها العسكرية والتفرغ ليصبح العمل تطوعيا. 

مع ظهوره في التسعينيات، إنهالت الهجمات على إبراهيم الذي عُد من وجوه الحرب، وبعد تآمر القوى الطائفية على الحركة النقابية وهي الكتلة الاجتماعية الموحِدة للجميع، من عمالية ونقابات حرة، وتحاصصها إياها، أصدرت اللجنة المركزية في العام 98 مطالبة بإعادة النظر بتجربة اليسار «كي لا يموت واقفا» داعية الى الخروج من وهم السلطة.

بدأت مرحلة الإنكفاء من دون ان تنقطع الحياة الحزبية الداخلية، وظهر المؤسس مرة وحيدة في العام 2005 مع اغتيال رفيقه في النضال جورج حاوي، حين اطلق نقده الشهير لـ«الحركة الوطنية» التي توسلت الحرب مدخلا للتغيير وحمّلت البلد فوق طاقته، بعد ضياع مفاعيل التحرير في دهاليز الانقسام والحرب، وضياع خروج الوصاية السورية في الدهاليز الداخلية، كما يؤكد طه.

فرصة 2015 و2019

شكل اندلاع انتفاضة النفايات في العام 2015، فرصة للإطلالة ولإختبار الامكانات تحت عنوان «التجمع الديمقراطي». كان ذلك صعبا مع التوجه الى اجيال جديدة تريد اجابات على اسئلتها رافضة للقديم ولمطولاته العقائدية.

في تلك الاثناء، كان التحدي «بنقد القديم للتمهيد لاستيلاد الجديد وسط عمل على اعادة تأهيل داخلية». أجرى الرفاق قبلها مؤتمرا متقطعا بين العامين 2002 و2009، وآخر في 2013 حيث كان القرار بالعودة الى ميدان الممارسة السياسية الذي ولّد ملامح التوجه الجديد ووجهته التنظيمة.

أخّرت النكسة الصحية لإبراهيم ذلك الهدف، لكن في العام 2015 عاد المؤسس ومنظمته الى النشاط واعادوا اصدار «بيروت المساء» في العام 2016، ثم كانت مشاركة في الانتخابات النيابية في 2018، تصويتا وترشيحا من خارج لوائح السلطة، وأدّت النتائج الى قناعة الرفاق بتهميش دور اليسار وانكشاف موقعه الاجتماعي.

ولعل مشهد انتفاضة 17 تشرين شكل فرصة جديدة لإعادة استنهاض هذه المرة، عبر حزب يساري جديد ديمقراطي علماني لم يُتفق على إسمه حتى الآن أو لعل الرفاق لا يريدون اعلانه جهارا. 

إنخرطت المنظمة في الحدث تحت عنوان «تجمع الشبيبة» قبل الاعلان عن المنظمة اسما لا خجل فيه في فعاليات الانتفاضة في اكثر من مكان. وقد شرع الرفاق في تعزيز العلاقات مع بعض فعاليات الحدث ومنهم حزب «الكتائب»، الخصم السابق الذي جمعته الدماء مع المنظمة في الحرب. 

أردنا تلك الحوارات بلا تبسيط وبلا أوهام، يقول طه. يشير الى حوارات عميقة مع اطراف اخرى مثل «التنظيم الشعبي الناصري» عبر تعاون لا استعجال فيه. ومن الغريب ان نقاشات حادة شابت العلاقة مع «الحزب الشيوعي» في أروقة «لقاء التغيير» و«لقاء الكومودور». هو خلاف في التموضع السياسي في الدرجة الاولى، لكن طه يؤكد رفض استحضار صيغ ماضية خطا وطرحا وموقعا، اضافة الى لفظ احتكار الوطنية عند أي طرف.

يؤسف القيادي اليساري اليوم ان تتكشف الانتفاضة عن ازمة عميقة. فوسط تناثر الشعارات باتت الاطر المتنوعة اعجز عن تحويلها الى امر واقع وبرنامج للنضال وسط استسهال للتغيير ولسقوط النظام. ترافق تكبير الشعارات مع ضمور في القوى الداعية إليه. «لقد وعينا هذا الامر نتيجة تجربتنا، فالقوى التي نزلت الى الشارع في شكل غير منظم، ستنكفىء ايضا بالطريقة نفسها، فلا نقابات ولا روابط طلاب ولا كتل اجتماعية تحدد مطالبها، فلم يعد هناك ما يقلق السلطة». 

يبتسم طه حين يتحدث عن الانتقال من مرحلة «انكار وجودنا الى التسليم بنا كطرف مستقل»، لكن ذلك لا يخلو من نقد ذاتي حول استقطاب الشباب المتعطش الى التغيير، الا ان الحل هو بتحديد اولويات المواطن معيشيا وحياتيا «يجب التوجه نحو وجع الناس وصعوباتهم ومصالحهم وحقوقهم».

تسمية جديدة

هو بذلك يخلص الى ما ذهب إليه المنتفضون. وبالنسبة الى الرفاق في التنظيم، هم يحضرون لإصدار وثائق تأسيسية في مؤتمرهم المقبل حول اسباب الذهاب نحو تنظيم يساري ديمقراطي جديد في التوجهات والمنطلقات والبرنامجه والبنية التنظيمية. 

ينصح طه بمقاربة واقعية وسط مرحلة خطر وجودي تحدق بالبلد. «أي تنظيم من موقع المعارضة يجب ان ينتسب الى أزمة البلد فعليا، ونحن لا نستطيع فصله عن محيطه مع صراع اقليمي ودولي مفتوح على المنطقة. هناك مشروع ايراني حقق اشواطا فيها ومشروع تركي زاحف يملك المقدرات والتاريخ، وكيان اسرائيلي مزروع يشكل ذراعا دولية وطبعا ليس الثلاثة لدينا على قدم المساواة، والاسئلة الكبيرة هي اين الوضع العربي؟ واين موقع لبنان من كل ذلك في ظل انقساماته الداخلية؟ أليس اهل البلد هم من ينقذه؟».

هي دعوة موجهة الى كل القوى الحية والكتل الاجتماعية والنخب للتلاقي بعيدا عن هوياتهم الفكرية في نقاش وحوار، بأشكال متنوعة بعيدا عن الانكار والتبسيط لإنتاج رؤية داخلية، فالخارج يريد كالعادة تسوية مصلحية تجدد في احسن الاحوال حالة الانقسام الداخلي.

وبهدفها التحديثي، تستعمل المنظمة ادوات ملائمة ليس موقعها الالكتروني الاخير «بيروت الحرية»، سوى احدى ادواته. وهي من دون شك خطوة لافتة مع نقد المنبع الماركسي انطلاقا من هدف تجديد اليسار عبر قراءة ازمة الرأسمالية بصيغتها الراهنة، وقراءة ازمة الديمقراطية كونها الخصم الرئيسي للرأسمالية التي تمخضت عن صعود اليمين الفاشي والعنصري في العالم. ويصر طه على ان «الاشتراكية بالتعريف هي اعلى درجات الديمقراطية التي لا نزال دونها كمجتمعات». 

في كل هذه الاثناء، يحضر الرفاق للذكرى الاولى لغياب إبراهيم ومن ثم لمؤتمرهم الذي سينتخب امينا عاما جديدا بعد تأجيل الامر مع وفاة إبراهيم. يقول طه: طرح بعض الرفاق وجوب انتخاب أمين عام سريعا، لكنني حسمت الموضوع بالإرجاء. المنصب ليس مهما، بل تلبية الدور وحاجات المنظمة عبر إدارة قيادية وليس عبر مركزية ديمقراطية لينينية كما في الماضي.

وفي خضم تحضيرهم لاستحقاقات مقبلة، يدرك الرفاق صعوبة المهمة في ظرف غير مؤات يزداد تعقيدا عليهم كما على اليسار في البلد، لكن التفاؤل يشوبهم دوما بقدرتهم على التغيير.. باللّحم الحيّ.