بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 آب 2022 12:00ص نحو عقد اجتماعي جديد (3/5) (بديل ديمقراطي للمحاصصة الطائفية)

حجم الخط
د. محمد شيّا*

4- العقد الاجتماعي اللبناني، بعد 1958:
كانت انتفاضة 1958، رغم سلميتها إلى حد كبير وعمرها القصير، حاسمة في إحداث تغييرات رئيسية في صيغة 1943، هي مجموع ما يجري تسميته بـ«الإصلاحات الشهابية» التي نشأت وترسّخت بين 1959 و1968، نهاية الشهابية. فقد أدرك منظّرو «الشهابية» وهم مثقفون تكنوقراط أن الأرض في لبنان تحرّكت كثيراً منذ صيغة 1926 الدستورية الأولية، ومنذ صيغة 1943 على نحو أوضح؛ وعليه لم يعد مجدياً دفن الرؤوس في الرمال وتجاهل ما تغيّر ويتغيّر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وديمغرافياً. فكان إدخال جملة إصلاحات سياسية واقتصادية ومالية وإدارية وتربوية هدفت جميعها إلى كسر الغلبة الطائفية الواضحة في العقد الأول ممثلاً بدستور 1926، وكسر احتكار السلطة بين الطائفتين الكبريين، وهو مضمون عقد 1943. أدخلت المناصفة إلى مجلس النواب، وإلى توزّع موظفي الفئات العليا، واستحدثت مؤسسات ذات طابع وطني لا طائفي، فأنشئت، بين إنجازات أخرى، الجامعة اللبنانية (صدرت مراسيم إنشاء الكليات الأساسية سنة 1959)، البنك المركزي، مجلس الخدمة المدنية، ديوان المحاسبة، قصر العدل في بيروت، الانعاش الاجتماعي الذي تولى تطوير الأرياف والأطراف، وأنشئت أكثر من 800 مدرسة ابتدائية ومتوسطة في الأرياف وعشرات الثانويات الرسمية.
لأسباب عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، أدخلت الشهابية إذاً تعديلات إصلاحية ليست بالقليلة على صيغة 1943، لا بهدف التخلص من الصيغة تلك، وإنما لإنقاذها من خلال حمايتها من رياح التغيير التي كانت تعصف بالعالم، وبالعالم العربي، وبلبنان ضمناً.
لقد كان ذلك تجديداً في العقد الاجتماعي اللبناني لم يحدث من قبل. 
وكان من نتائج ذلك، المقصودة على الأرجح، حماية الصيغة اللبنانية ودور لبنان الاقتصادي في المنطقة وهو سبب ازدهار قطاعات عدة في لبنان. كان من نتائج الإصلاحات إعادة رسم خارطة التوزّع الطبقي من خلال التشكّل السريع لطبقة وسطى تضم التكنوقراط والأعداد المتزايدة من أبناء الطبقات الدنيا الذين تخرّجوا الآن من الجامعة اللبنانية أو سمحت حالة الرفاه النسبي والتقديمات الاجتماعية بتخرّجهم من الجامعات الخاصة الكلاسيكية (الأميركية واليسوعية) أو المستحدثة. وغدت الطبقة الوسطى ومن خلال مستويات وعيها المستنير والمدني غير الطائفي إلى حد كبير قاطرة الحداثة في البلاد. ودخلت إلى المسرح كذلك قوى جديدة لم تكن في الحسبان، هي الطوائف والأطراف التي همّشها توافق 1943 المستند إلى تحالف زعماء الطائفتين الكبريين من جهة وبرجوازية العاصمة من مستوردين ووكلاء وتجّار وبيوتات مالية تقليدية، من جهة ثانية. 
وكان للدخول ذاك إلى مسرح العمليات والحراك الوطني والاجتماعي (طبقة وسطى ناشئة وطوائف وأطراف كانت مغيّبة) في النصف الثاني من الستينات تأثير مباشر قوي في ميزان القوى الداخلي. فقد تخلخلت الأن القواعد التقليدية التي قام على أساسها عقد 1943 الطائفي الفئوي والاستبعادي في آن، وبات هناك لاعبون جدد لا يملكون إلا القليل من السلطة السياسية والاقتصادية، لكنهم يملكون الكثير من النفوذ والفاعلية والقدرة على تحريك الناس على الأرض.
وهكذا ظهرت أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يعكس التحوّلات الناشئة، ويدخل المتغيّرات الجديدة في صلب خارطة توزّع السلطة وتوازناتها الوطنية والطائفية والاجتماعية، لا يكتفي بالإصلاحات الشهابية المعتدلة، بل يدفع نحو الإقرار بضرورة قيام عقد اجتماعي جديد للبنان يعكس ميزان القوى الجديد والذي بات في صالح قوى التغيير الاجتماعية (الطبقية والحزبية والشبابية والجامعية على وجه الخصوص). وعليه، كانت حرب 1975 الأهلية التعبير المباشر عن قوة الحاجة تلك، وإعلاناً أن العقد الاجتماعي السابق انكسر إلى غير رجعة، أي لم يعد يلبّي الشروط الوطنية والاجتماعية الجديدة، وبات المطلوب بإلحاح عقد اجتماعي جديد تحددت ملامحه السياسية والاقتصادية والاجتماعية جليّة في «البرنامج المرحلي للإصلاحات السياسية والاقتصادية» الذي أعلنته الحركة الوطنية اللبنانية (الممثلة للقوى السياسية والاجتماعية غير التقليدية) في آب 1975. شكّلت إصلاحات البرنامج المرحلي ترجمة لمعظم ما ناضلت في سبيله الأحزاب العلمانية والحركة الطلابية والحركة النقابية طوال السنوات السابقة. وكان خارج كل اصطفاف طائفي أو مذهبي. لكنه سقط مع الأسف ضحية التوقيت الخطأ، أي في أثناء حرب أريد لها أن تكون أهلية طائفية، فيما هي لم تكن كذلك في الأصل.
وقد احتاج الأمر بعد ذلك إلى خمس عشرة سنة من الاقتتال الداخلي للوصول لاحقاً إلى اتفاق الطائف الذي أقرّ الكثير من مطالب البرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية، من مثل المجلس الاقتصادي الاجتماعي والنسبية وإلغاء الطائفية السياسية تدريجاً (وقد تبيّن أن لا أحد يريد ذلك بالفعل)، ولكن من دون كسر الطابع الطائفي – البرجوازي للعقد الاجتماعي اللبناني المستمر منذ 1926 و1943. إلاّ أن المعالجة تلك كانت وكما هو متوقع جزئية ترقيعية، فلم تتأخر سلسلة من الأزمات الجديدة عن التوالد والتناسل منذ انتخابات 1991، ثم قلاقل 1993، إلى تطورات 2005، 2007، 2008، التي دفعت نحو اتفاق الدوحة، 2008، الذي كان في واقع الحال وبالتعبير الدقيق: العودة بالبلاد وبقوة السلاح (7 أيار 2008) إلى اصطفاف الثمانينيات السياسي- الطائفي، (وهو ما يسعد قادة الطوائف كافة)، دافعاً بالخطاب الاقتصادي والاجتماعي التحديثي، وبالمطالب النقابية والشبابية إلى الخلف، لصالح ما اعتبر تصحيحاً للخلل الطائفي والمذهبي في اقتسام السلطة السياسية في البلاد - والذي كان في الواقع تدشيناً لحرب أهلية باردة جديدة من الصراع على الحصص في السلطة بين الطوائف الكبرى.
لكن اتفاق الدوحة سنة 2008 لم يؤدِّ في الواقع (وبسبب من هويته الطائفية) إلا لنتائج شكلية، هشّة. فقد ظهر سريعاً فشل خطاب الغلبة الطائفية والإقصاء الجديد هذا طوال 15 سنة، كما فشل من قبل خطاب صيغة 1943 القائم أيضاً على مبدأ الغلبة والإقصاء، عن جلب الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد. وبدأت بالتالي ملامح التأزم والانسداد الاقتصادي والاجتماعي منذ 2015/2016 تتراكم وتتدحرج سريعاً ليتحول انهياراً شاملاً سيطر على كل القطاعات التي تعني اللبنانيين منذ سنة 2021 وإلى اليوم - دون الحاجة إلى عدّها بالتفصيل لأنها من النوع نفسه تقريباً.
كان الدرس المستخلص من التجربتين الفاشلتين في فرض عقد اجتماعي فوقي غير متوازن (تجربة 1943 وتجربة الدوحة 2008) مزدوجاً، وهو (1) أن الوصفة السياسية الطائفية (أيّاً يكن وجه الغلبة فيها) لا تتضمن أي حل حقيقي لمشكلات اللبنانيين، وبخاصة للشباب منهم. و(2) أن الازدهار المالي أو الفورة المالية المصرفية (لخمسينيات القرن العشرين، كما لمرحلة 2009-2016) لا تشكّل أي تطور اقتصادي حقيقي مستقر ولا تحول دون تبرّم معظم اللبنانيين وبخاصة الشباب واعتراضهم وتمرّدهم على الانسداد الاقتصادي والاجتماعي الناتجين عنها.
وهكذا نحن الآن، وكما كنا من قبل، وسط أزمة وطنية خانقة تجعل الخيارات المتاحة ضيّقة جداً: إما عقد اجتماعي جديد كلياً يرضي غالبية اللبنانيين، وبخاصة الشباب، وخارج الهيمنة الطائفية – البرجوازية، أو الغرق أكثر في لجّة الإفلاس والعوّز والانهيار الشامل الذي ليس بمقدور أحد تقدير المدى الذي سيصل إليه.
ولكن السؤال يبقى، كيف سنتمكن من الوصول إلى هذا العقد الاجتماعي اللبناني الجديد؟ أية خارطة طريق يمكنها أن تفي بالغاية تلك؟
5- معوّقات الوصول إلى عقد اجتماعي جديد (باختصار)
أهم المعوّقات التي شكّلت صعوبة حقيقية، كما ظهر حتى الآن، أمام الوصول إلى عقد اجتماعي جديد ناجح هي برأيي كما يلي:
1- طبيعة المجتمع اللبناني المعقدة، والتي يصعب اختصارها بساعتين اثنتين أو ثلاث،
2- الطبيعة الطائفية الصارخة للمجموعات اللبنانية المكوّنة للمجتمع اللبناني،
3- الإرث التاريخي الثقيل التي تحمله ذاكرات الطوائف الجمعية، وملخصه عدم الثقة والخوف المتبادل، وتقاليد المحاصصة والمقاطعجية بديلاً من الدولة؛
4- التدخلات الإقليمية والدولية التي فتكت بالمجتمع اللبناني منذ أواسط القرن التاسع عشر ما جعل الخارج شريكاً في كل تعاقد داخلي؛
5- استئثار المثلث الاقطاعي/ الطائفي/ المالي بمقدرات البلاد كافة، واحتكاره كل نقاش يتصل بتطوير الصيغة الوطنية للبلاد، والتغييب التام بالتالي لأراء شرائح المجتمع المدنية الثقافية والاجتماعية والشبابية الأخرى،
6- الدور السلبي للمؤسسات الإعلامية والتربوية الضحلة الثقافة، والمستتبعة في حقيقتها للمؤسسات الطائفية المتحكمة بجزء كبير من مقدرات البلاد؛ هذه المؤسسات تنتج بوعي على الأرجح ثقافة تؤسس لتأبيد الصيغة الطائفية/الاقطاعية للبنان، الى حد اعتبارها من البديهيات، حتى لدى مثقفين بارزين، فتكاد لا تصدق نوعية الخطاب الرجعي الذي يتولون الترويج له؛
7- وأخيراً، عقبات منهجية تتصل بطريقة مقاربة القوى الإصلاحية التقدمية غير الطائفية لمسألة صياغة عقد اجتماعي جديد، والتي سقطت في الغالب في الفخ الذي ينصبه تحالف المحاصصة لها على الدوام؛ وهي النقطة الوحيدة التي سأعالجها بالتفصيل في الفقرة التالية؛ مع اقتراحي بدائل ناجعة لها.

* عميد سابق لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية