بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 أيلول 2021 12:02ص نصيحة قيّمة من سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية

حجم الخط
بصائر استنارت بصدق إيمانه وتحصّنت بنبل وكرم خلقه، ورحبت منها الآفاق بانفتاح قلبه وعقله، وبشمول معرفته الواسعة للعلم، وعمق ثقافته، ومواكبته المستمرة لتطوّر الفكر الإنساني.

إنه سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ الدكتور عبد اللطيف دريان، الذي ترك بصماته على سجل التاريخ في لبنان، فبدت كنقوش في الصخر، تضيء طريق الأجيال عبر الأسلوب والمسلك في التعاطي مع الشأن العام، وليس بمقدور أحد أن يمحيها أو يزيلها. وقد غدا جزءاً عزيزاً غالياً من تاريخ لبنان الحديث، ومن سعي اللبنانيين والمسلمين لتحقيق أحلامهم الكبرى.

تحب المفتي أم تكرهه، تؤيّد مواقفه أم تعارضها، تجذبك رؤيته أم تبعدك، ليس هو الموضوع، بل شخصه الذي لا تستطيع تجاهله، فشخصيته ملأت حيّزاً واسعاً في العمل الديني والوطني يصعب تجاوزها، ودوره في الحياة العامة يتعذر التنكّر له. من هنا كان رفض المفتي للتصويب على رئيس حكومة تصريف الأعمال، واستهجانه أصول التخاطب مع موقع رئاسة الحكومة، ورفضه الإصرار على نفس النهج الذي يسيء إلى أصول مفهوم التعامل مع الرئاسة الثالثة في قضية انفجار المرفأ، في حين كان يجب أن ترفع الحصانة عن الجميع لتأخذ العدالة مجراها، لا أن يستهدف البعض لأسباب مجهولة، دون البعض الآخر. فكما أكّد رؤساء الحكومات السابقين، أنّ الرئيس ميشال عون شخصياً اعترف بأنه قد علم بوجود هذه الكميات الكبيرة من نيترات الأمونيوم في عنابر مرفأ بيروت قبل خمسة عشر يوماً من تاريخ التفجير المريب، وهو يعلم بأنّ إدخال أيّ كمية كانت من هذه المواد المتفجرة الى الأراضي اللبنانية يحتاج إلى إذن مسبق من مجلس الوزراء مجتمعاً وذلك بعد موافقة المراجع الأمنية المختصة. وهذا ما يعني وجوب أن ترفع الحصانة عن رئيس الجمهورية فيما خص هذه الجريمة الخطيرة التي أصابت لبنان.

وحدها العدالة الكاملة يتوسلها المفتي في قضية المرفأ لجلاء الحقيقة، ولانتصار الحق مهما طال أمد الصراع، انطلاقاً من ثقة لا تتزعزع بأن الغلبة لا يمكن أن تكون إلا للنور على الظلام، وللحق على الباطل، في آخر المطاف. ولذلك ليس من المقبول النيل من موقع رئاسة الحكومة دون سواها من المواقع العليا في الدولة اللبنانية التي يشار إليها نهاراً جهاراً بمسؤولية وقوع هذه الجريمة. ووراء كل ذلك أيضاً، إيمان وطيد من المفتي بالعدالة وضرورة جلاء الحقيقة، وإيمان بالعقل الذي وهبه الله للإنسان، وفضّله على كثير من خلقه. كما أن موقع رئاسة الحكومة لا يقل أبداً أهمية وقدراً عن أي موقع رئاسي آخر في لبنان، فلماذا يتمّ استهدافه دون غيره، إخلالاً بالتوازن بين مواقع الرئاسات الثلاث.

إنّ سماحة المفتي رجل مواقف ومبادرات، ولم يعد البلد يحتمل أو يتحمّل مزيداً من المهاترات، ولذلك رفض سياسات التعنّت والتصلّب التي يمارسها البعض، وخصوصاً محاولات إلغاء الآخر. ونظراً لأن الفوضى الشاملة باتت تهدّدنا من كل صوب وكل جانب، طالب سماحته بالترفّع عن الترّهات التي تُرافق تكليف كل رئيس حكومة، ولا سيما تكليف الرئيس ميقاتي الذي جاء بناءً على رغبة أكثرية المجلس النيابي وبتزكية من رؤساء الحكومات السابقين ومباركة دار الفتوى. كما رفض أن يكون لبنان مجموعة جزر، المسلم فيها يسمّي المسلم والمسيحي يسمّي المسيحي في الحكومة، لأنه لا يساوم ولا يهادن عندما تكون مصلحة الوطن والأمة هي السبيل والهدف، ولا يخشى لومة لائم. إنه مدرسة في العطاء الجدّي الذي تخطّى كل الحواجز والعراقيل والظروف القاسية وعقبات هذا الزمن الرديء.

لقد ضجّ لبنان بالنصيحة التي وجّهها سماحته لرئيس الجمهورية، حينما قال له حاول أن تنقذ ما تبقّى من عهدك وإلا فنحن ذاهبون إلى جهنّم التي بشّرتنا بها؛ لا سيما أنّ تجاهل اعتذار الرئيسين المكلفين مصطفى أديب وسعد الحريري، والتمسّك تارةً بالثلث المعطل وتارةً أخرى بحقيبة الداخلية أو المالية، هو الذي أدخل لبنان بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية القاتلة، وهو في نفس الوقت إنكارٍ متمادٍ لمطالب الناس المستمرة على مدى سنوات، وهذا يُعد استخفافاً بالشعب وتجاهلاً لإرادته من قبل رئيس الجمهورية.

وعموماً فإنّ سماحة المفتي في كل مرحلة له صولة وفي كل ميدان له فيه جولة، وجهاده لا ينقطع في سبيل خير المجتمع والناس، وفي العمل الوطني المميّز مسيرة لا تتوقف من أجل لبنان، حركة دائبة ومتواصلة، لا يعرف اليأس في الأزمات، ولا التردّد في الملمّات، ليّن في موضع اللين، ويقطع كالسيف في مواطن الشدّة، الجرأة في شخصيته عنوان، والحكمة في سلوكه صنوان. ويوم تخلو الساحة من الحكمة، يفزع الساسة والرجال إلى سماحته، يوم تعزّ الأقدام، وتبهت الجرأة عند الرجال، يهرع قادة الرأي وأساطين السياسة إليه.

لقد أدرك سماحته أن الأزمة الحقيقية، هي في استهداف اتفاق الطائف ونظام الجمهورية الثانية، وكثيراً ما مارس دوره الديني في سبيل الحفاظ على العيش المشترك في البلد، والتوازن في الحكم والمشاركة في السلطة. ولهذا أدرك أنّ الإهانة العلنية لموقع رئاسة الحكومة، واستضعاف رئيس الحكومة المستقيل، إنما هي خطوة في اتجاهها للتصعيد، كما سبق أن استضعف الرؤساء المكلفين السابقين، ودفعوا عنوةً إلى الاعتذار. ولا بدّ من الاعتراف بقوة شخصية سماحة المفتي، ورفعة رؤيته الوطنية وخصاله الدينية الرفيعة المستوى، لذلك لم يمنعه التزامه الإسلامي والعربي من استقطاب الآخرين، بل على العكس، كان التزامه هذا بمثابة الحافز الدائم لجعله يستبعد كل ما يضرّ بوحدة لبنان وتعايش أبنائه بالحوار والتفاهم. ومع ذلك، لم يكن ليسكت عن الضيم، ولا يسوّف في نقد الواقع، فلطالما شهر سيفه على الظلم والفساد في الحكم والإدارة.

إن سماحة المفتي من دعاة العيش المشترك على كل الأراضي اللبنانية، ويرى فيه الدعامة الأساسية لبقاء لبنان. فإذا زال هذا العيش زال الوطن، ولذلك يجتمع دوماً برجال الدين والسياسيين ويدعوهم إلى نبذ العصبية الطائفية، وإلى شدّ أزر العيش المشترك ليعود الوطن إلى سابق عهده من الألفة والمحبة. عطاءاته تبقى شاهدة على ما بذله من أجل لبنان وديمومته، وخطاباته في الصميم والوجدان. ولذلك، فإننا نأمل أن تلقى نصيحة سماحة المفتي آذاناً صاغية من رئيس الجمهورية، وألا تمرّ مرور الكرام، لا سيما أنّ أبناء الطائفة السنية باتوا موحدين، وكلمتهم كلمة واحدة، لأنهم يشعرون بأنهم مستضعفون، وأن هنالك استقواءً يمارس ضدهم، وأنّ حقوقهم مهدورة في هذه المرحلة الحرجة التي يمرّ بها لبنان. ولذلك فإن مواجهتهم جميعاً تشكّل انتحاراً سياسياً، وتدخل البلاد في حلقة مفرغة من الصراعات التي لا تحمد عقباها. وقد أعذر سماحة المفتي من أنذر.